Tag Archives: II. إبستمولوجيا

1.مــا هـــو الـــعلـــم ؟..

العلم نشاط خاص لم تكن له على الدوام ، لا القوة ، و لا الانتشار اللذين يعرف بهما اليوم . جغرافيا ، ظهر العلم في حوض البحر الأبيض المتوسط وأوربا الغربية ، ولم يمتد إلى أجزاء الكرة الأرضية الأخرى إلا مؤخرا ( القرن 19 ) وبشكل غير متكافئ . تاريخيا ، نستطيع القول إن له عقدين للميلاد : فقد ظهر أولا ، وبشكل خاص ، على شكل رياضيات ومنطق وعلم فلك ، وذلك منذ القديم . هذه العلوم ـ التي ذهبت بها شعوب معينة بالحوض المتوسطي إلى درجة من الاكتمال مبهرة ـ كانت علوما تأملية خالصة ، بمعنى أنه في مجتمع كمجتمع أثينا ـ مثلا ـ لم يكن لهذه العلوم أي ميل لخدمة أي تقدم تقني ، بل كانت وظيفتها ، الترويح عن النفس ، وتثقيف المواطنين العاطلين عن العمل بإعطائهم تصورا معينا عن العالم . وقد ظهر العلم بعد ذلك في القرن 17 في أوربا الغربية في خضم منافسة مع النسق التجاري ، ولكن بشكل أكثر مغايرة هذه المرة للسابق : حيث ، وباعتباره ظل أبعد ما يكون عن الصبغة التأملية ، فقد حاول ، ما في وسعه ، تحصيل المعارف المشبعة للحاجات العملية . وهذا هو السبب في كون العلوم المنحدرة من هذا المهد الثاني ، تختلف جذريا ، من حيث موضوعاتها ومناهجها ، عن العلوم التأملية الخالصة : إنها ستحاول معرفة العالم المشخص الفيزيقي ( في القرن 17 كانت ” الفيزياء ” تعني كل علوم الطبيعة ) ، وستطبق المنهج التجريبي لإنجاز هذه المهمة . و لا يتعلق الأمر مطلقـــا ، وبطبيعة الحال ، بادعاء أن كل الأبحاث كانت لها غايات عملية ، و لا أن كل الاكتشافات أمكن استيعابها كاكتشافات مشتقة من الحاجات التكنولوجية ، ومع ذلك فإن العلم المولود في القرن 16 لم يبق متجاهلا من طرف عقول خالصة ، وفر لها استعباد الآخرين فرص التفلسف مجانا ، ولكنه أصبح علما شكّل موضوع اهتمام البورجوازيين أو التجار الذين ، مع أنهم لم يمارسوه بأنفسهم بل تركوا أمره للاختصاصيين ، فإنهم حلموا بتملك العالم بواسطته ، كما باشروا ذلك فعليا عن طريق نشاطهم الاقتصادي . وكما بشر بذلك ديكارت ، فإن العلم ، منذ ذلك الحين ، استهدف ” جعلنا أسيادا متملكين للطبيعة ” . ولكن تجديد العلم في القرن 17 لم يفعل سوى أنه فتح أمام العلم قارة أخرى : قارة ” الفيزياء ” ، وساهم أيضا بالتدريج ، وبروح نفعية ، في استخدام العلوم القديمة التأملية من رياضيات ومنطق في دراسة الطبيعة . وهذا هو السبب في أننا عندما نتكلم اليوم عن العلم المعاصر ، فإننا نتجاهل مكتسبات العلم القديم وعلوم القرون الوسطى ، التي لا يمكن اعتبارها مكتسبات بدون معنى، لكي نشير ونعني بشكل جوهري العلم الأمبريقي أو التجريبي ، هذان النعتان اللذان يشيران في نفس الآن للموضوع ( الطبيعة ) وللمنهج ( الاختبار التجريبي ) العلميين (1).
إن العلم معرفة موضوعية تنشئ بين الظواهر علاقات كلية وضرورية تسمح بالتنبؤ بالنتائج ( المعلولات ) التي نحن قادرون على التحكم فيها تجريبيا ، أو تحديد سببها عن طريق الملاحظة . لنوضح حدود هذا التعريف :
1 ] إن العلم معرفة : من زاوية النظر الوحيدة هاته ، يماثل العلم ما نسميه : المعرفة الأمبريقية ، بمعنى المعرفة المؤسسة على التجربة الفورية التي هي غالبا خاطئة ( النار تحرق ـ الصوف يحتفظ بالحرارة ..الخ ) ، والمعرفة التقنية ( فن صناعة البواخر ـ والنار ..الخ ) . غير أن المقارنة تتوقف عند هذا الحد : إذ المعرفة الأمبريقية وكذا المعرفة التقنية تتحددان بواسطة الحاجات الفورية التي تستجيبان لها ( أتعرف على النجوم من أجل أن ترشدني ـ أسوق سيارتي لغرض التنقل … الخ ) ، في حين لم تكن للمعرفة العلمية أبدا ، وبمعنى معين ، تطبيقات فورية : إنها بالفعل إجراء ثقافي وفكري خالـص ، ولو أنها أُنشئت لغاية تطبيقات عملية محددة . لقد استطاع علماء معينون ـ مثلا ـ دراسة علم القذائف بغية تحسين مردودية قطع المدفعية ، إلا أنهم كانوا مطالبين باستخلاص قوانين عامة صالحة بالنسبة لجميع الأجسام المقذوفة . وقد استُخدمت هذه القوانين في ما بعد من طرف رجال المدفعية ، ولكن ، أيضا ، من طرف الصناع ، وحديثا من طرف المهتمين بإطلاق المكبات الفضائية إننا نجد أن العلم ، وربما كان ذلك هو السبب الأقوى لميلاده في المجتمع التجاري ، يفترض تقسيما للعمل : إنه يتعارض مع المعرفتين الأمبريقية والتقنية في أن الإجراءات الفكرية الخالصة وكذا المادية الخالصة مفصولتان عن بعضهما في العلم والتقنية ، كما أن الأشخاص القائمين بهذه الإجراءات هم أنفسهم منفصلون عن بعضهم البعض ومقسمون إلى علماء وتقنيين .
2 ] إن المعرفة العلمية معرفة موضوعية أو تنزع نحو الموضوعية : فهي تتمثل في قضايا ( قوانين ) و/أو أنسقة من القضايا ( نظريات ) هي مطالبة ، وفي الآن نفسه ، بالاستجابة لمعايير الصلاحية ( التماسك المنطقي الداخلي لقضية أو نسق من القضايا ) ولمعايير الحقيقة ( التطابق بين القضية والوقائع ) . وهذان النوعان من المعايير ( خاصة المعايير الثانية ) مستقلان أو يحاولان الاستقلال عن كل تقدير ذاتي . هكذا يلغي العلم ، لا فقط قضايا اللغة الدارجة أو الشعرية التي تتضمن تناقضا داخليا ( ” هذا التلميذ متوسط الذكاء لأنه ينتمي إلى وسط متواضع ـ متوسط ـ ” أو ” الأرض زرقاء كبرتقالـة ” ) ، بل أيضا القضايا المتناقضة مع أخرى ( ” الشمس هي مركز الكون وهي لا تتحرك ” هي قضية غير متسقة مع القضية التالية : ” الشمس تدور حول الأرض ” ) ، بل وأيضا حتى القضايا التي تم تكذيبها بواسطة التجربة أو الملاحظة ( ” الطبيعة تخشى الفراغ ” هي قضية تم تكذيبها عن طريق التجربة ) . وبإرضاء هذين الشرطين يستطيع العلم أن يدعي الموضوعية والحصول على موافقة ( إجماع ) الجماعة العلمية ( المجتمع ) . ثم ، بمقدار ما يتشرب العلمُ الجسد الاجتماعي ( بواسطة مجموع الأنسقة والأنظمة التربوية ) للمجتمع بأكمله . وهذه الملاحظة الأخيرة تبين أن الموضوعية لا تحصلها المعرفة العلمية بشكل فوري ومباشرة ، لأنها مسألة يمكن امتلاكها بالتدريج ، نتيجة التعديل المتعاقب للأخطاء ، والتدقيق والإرهاف المستمرين للنظريات . فالعلم يترك دائما في بعض الجهات مناطق تشكل غنيمة سهلة للذاتية : ليست الموضوعية ، إذن ، محمولا جوهريا (2) للمعرفة العلمية ، إنها بمعنى ما ، النواة الصلبة للعلم ، وهي متأتية من محيط معين من الاحتمال والارتياب … الخ : إنها لا تنتمي إلى ما هو كائن ، لأنها من صنف ما يصير ويكون .
سمة مميزة أخرى تضع العلم في حال تعارض مع الحس المشترك ( المعرفة العامية ) تتمثل في كونه يستخدم مفاهيم وحيدة المعنى ، تجعل من المعرفة العلمية معرفة موضوعية : فبتعارض المفاهيم العلمية ، بهذا الخصوص ، مع المفاهيم اللسانية ( مفاهيم اللغة المتداولة ) تتميز بكونها ليس لها ، أو تحاول أن لا يكون لها إلا معنى واحدا محددا من طرف العالــم ، وذلك لتغطية مجموع من الظواهر أو العلاقات ، في حين أن المفاهيم اللسانية ملتبسة بطبيعتها : فهي تغطي عدة مجموعات من الظواهر ، وهي معرضة لانزلاق المعاني وللتشوهات مثلا ، أو لترابط غير لائق للأفكار . إن مفهوم العطالة مثلا في اللغة العلمية يشير إلى خاصية تنسحب على كل الأجسام الصلبة ، وعليها وحدها فقط ، وحسب هذا المفهوم فإن جسما متروكا لحاله يظل في حالة اللاحركة ، أو في حالة حركة دائمة ما دام لم يتعرض لأي شيء يغير حركته . وبالعكس من ذلك في اللغة المتداولة ، تُتمثل العطالة باعتبارها غيابا للحركة ، أو كمقاومة لها ( قوة العطالة ) ، كما يمكن سحب هذا المفهوم على الأجسام والأرواح معا ، إلى حد أنه يتحول أحيانا إلى مرادف للجمود والبلادة . نرى بوضوح إذن أنه لا يمكننا إقامة أية معرفة موضوعية انطلاقا من التصور اللساني للعطالة ، وذلك لأنه ليست هنالك أية علاقة مشتركة بين عطالة الفتاة الشابة المغمى عليها ، وعطالة السيد ” دوبون ” الذي يرفض مغادرة كرسيه لممارسة عملية غسل الأطباق المنزلية ، أو العطالة الاجتماعية التي تمنع النواب الجيسكارديين من القيام بالإصلاحات الضرورية . إن المفهوم العلمي ، بالعكس من ذلك ، لا يسمح بأي شيء على الأقل خلا بناء كل الميكانيكا المتعلقة بالأجسام الصلبة .
3 ] يدرس العلم الظواهر : و لا نعني بهذا اللفظ الأشياء أو الوقائع التي يستطيع أي إنسان ملاحظتها في ما حوله ، بل نعني به الأشياء أو الوقائع المحددة ، والمنتقاة ، والمصنوعة من طرف العلماء . فالكيمياء ، على سبيل المثال ، لا تدرس ماء الحنفية أو ماء سيدي حرازم ، بل تدرس مركبا كيميائيا H2O ، والفيزيائي الذي يريد تبديه قانون السقوط الحر للأجسام لا يهتم بالانتحار والسقوط من النافذة ( بالنسبة للأشخاص ) ، وذلك لكي يحصر اهتمامه وانتباهه في دراسة كويرة معدنية تتدحرج فوق سطح مائل ، في الوقت الذي يدرس فيه عالم الطيور سلوك العصافير المحصية والمفهرسة قبليا ، والمصنفة حسب معايير مورفولوجية وإيكولوجية … الخ .
4 ] يقيم العلم علاقات كلية وضرورية : وبذلك يتجاهل الحالات الخاصة والجزئية ، و لا يهتم إلا بالظواهر التي تحدث دائما في ظروف محددة . إن العلاقات المقامة بين حدوث الظواهر والشروط والأسباب التي تؤدي إلى حدوثها هي ضرورية بمعنى أن الظاهرة لا يمكن أن لا تحدث عندما تجتمع وتتوفر شروط حدوثها . والعلاقات المستخلصة بهذه الصورة تحمل صفة ” قانون ” . وسنرى في ما بعد أن قوانين علمية معينة هي قوانين وصفية

خالصة ، في حين أن قوانين أخرى هي قوانين سببية . تنبؤ العرافة
5 ] يمكِّن العلم من التنبؤ انطلاقا من القوانين التي ينشئها : وهنا يجب أن نميز بوضوح بين نشاطات وإمكانيات العلم في مجال التنبؤ ونبوءات وتكهنات العرافين الممارسة بكل أصنافها من طرف بائعي الأوهام والدجالين . إن التنبؤ العلمي هو في نفس الآن أكثر فعالية وأكبر محدودية من تنبؤ أو فراسة العرافة : فالتنبؤ يفترض بالفعل التحكم الكامل في سيرورة ما ، بمعنى معرفة سبب ما وتأثير ما ، و نتيجة لذلك تتوفر لهذه المعرفة ميزة مطلقة . على سبيل المثال يمكن التنبؤ وبدقة لامتناهية بحالات الخسوف كما هو الشأن بالنسبة لمسارات المركبات الفضائية . وإذا كانت التنبؤات المناخية ( الأرصاد الجوية ) ـ والتي ليست بالسوء الذي يزعمه البعض ـ لا تضمن في شيء الحالة الجوية المثلى ( المتنبئ بها ) لعطلنا الأسبوعية أو الكبرى ، فإن مرد ذلك فقط إلى التعقد والتفاعل بين الظواهر التي لا نعرفها بشكل جيد دائما ، وإلى صعوبة ملاحظتها بالامتداد والاتساع الضروريين . وبالمقابل ، يتميز التنبؤ أو التكهن المبني على التنجيم أو على قراءة فنجان القهوة بعدم فعاليته كليا ، لأنه لا يقيم أية علاقة ضرورية بين سبب ونتيجة . وإذا كان مدى التكهن لا نهائيا ( حيث نستطيع التكهن بموت أحد السياسيين بشكل أفضل من التكهن بزواج نجمة من نجوم الطرب ) فإن الثقة التي نضعها في هذا التكهن تساوي صفرا .
وهكذا فإن العلم ـ بفضل موضوعيته ، وبفضل الضرورة المطلقة للعلاقات التي يقيمها ، والتنبؤات التي يقوم بها ، وأيضا بفضل التواضع والحذر المصاحبين لكل قضية من قضاياه ـ هو معرفة من طبيعة أخرى مغايرة لطبائع أنواع المعارف الأخرى ، صحيحة كانت أم خاطئة .

1 ـ خصائص المعرفة العلمية :
ـ العلم والرأي : [ بادئ الرأي ] .

ليس العلم معرفة مختلفة عن تلك التي يمدنا بها الرأي فقط ( أو المعرفة العامية ) ، ولكنه لا يمكن أن يوجد أيضا ، كما أوضح ذلك وبقوة جاستون باشلار في جميع أعماله ، إلا بإحداثه قطيعة إبستمولوجية مع الرأي ؛ فالمعرفة العلمية مطالبة حتى تنتج معرفة إيجابية ، بإنكار شبه ـ معرفة سابقة ، وبالنسبة لباشلار فإن المعرفة العلمية هي دائما مفارقة [ رأي مغاير للرأي السائد ] تؤكد ذاتها ضد حكم مسبق .
هكذا لن ننزعج ، تبعا لإشكالية باشلار ، من أننا نتحاشى الطرح المغلوط للتعارض بين المعرفة العلمية والرأي الشخصي ( الإحساس ـ الذاتية ) ، والذي عودنا التقليد الفلسفي على حله باللجوء إلى ” ثياثيثوسنا ” أو إلى مقدمة أرسطو الكبرى ” لا علم إلا بما هو كلي ” ؛ إذ يتعلق الأمر هنا بإبستمولوجية طفولية تختزل رادة المعرفة العلمية إلى العمومية ، إلى المفهوم ، بفصله عن إطاره المتمثل في العالم المحسوس ـ وهو ما يعتبر تعسفا ـ ؛ فتأسيسا على إبستمولوجيا مثل هاته لا يمكن لأي علم أن يتشكل ما عدا الرياضيات والمنطق ، ما دامت ترفض مفاهيم العلم الأمبريقي المعاصر : أي تلك المتعلقة بالكم والقياس ، فالثياثيثوس ـ مثلا ـ يقصي مستثنيا التيرموميتر ( مقياس الحرارة ) .
وإذا كنا نريد تعريف العلم بالعلاقة مع الرأي فعلا ، فيجب أن نمنح لهذا الأخير لا معنى الفكرة الشخصية الذاتية ، بل بالعكس معنى الفكرة المتلقاة ؛ فليس للعلم ، أو لم يعد من مهامه الصراع ضد المعيش ، بل هو مطالب بالمصارعة الدائمة وغير المهادنة للإيديولوجيا .
في أي شيء إذن يختلف العلم عن بادئ الرأي المتمثل بهذا الشكل ؟ .. إن بادئ الرأي ، صادقا كان أم كاذبا ، لم يكن أبدا مُحفّزا إلا من طرف حاجة اجتماعية : فالفكرة القائلة بأنه في مناطق ساحلية معينة تجلب الرياح الغربية الأمطار والعواصف ، هي فكرة تستجيب لضرورة حيوية لدى الفلاحين للحفاظ على إنتاجيتهم الفلاحية ، ولدى البحارة لكي يعرفوا إن كان بإمكانهم الإبحار بدون مخاطر ، ونفس الشيء يذكر بالنسبة للفكرة القائلة بأن المحار البحري مهيج للشهوة الجنسيــة ، فهي فكرة ليس لها من معنى إلا ما تشهد به ـ على سبيل المثال ـ عدة لوحات لدى المجتمع الفلاماندي الراقي في القرن 17 حيث كان الاهتمام بالغا بالنتيجة الناشئة عن التهام هذه الرخويات أكثر من الاهتمام بالسيرورة التي تؤدي لهذه النتيجـــة . إن بادئ الرأي يبحث عن نتيجة ، عن معلول ، في الوقت الذي يقيم فيه العلم علاقة . ألم يكن باشلار إذن محقا في القول بأن بادئ الرأي لا يمكن أن يكون على صواب ، حتى ولو كان صائبا بالصدفة وانطلاقا من الوقائع ، ” إن بادئ الرأي هو بحق خاطئ دوما ” . إن العلم ينشغل ويحرص بالفعل على إضفاء المشروعية على أحكامه وإثباتاته بدون أن يهتم بنتائج وتأثيرات محتوياتها ، أما الرأي ، فهو على العكس ، لا يبالي بتفسير الظاهرة ولا يفعل سوى أن يقرر وجودهـــا ، و لا تهمه إلا المنفعة التي يمكنه أن يجنيها منها . سنرى في ما بعد أنه يمكن إيجاز التعارض بين العلم وبادئ الرأي في الكلمات التالية : يبحث العلم عن الأسباب الفاعلة في حين يتجه بادئ الرأي مباشرة صوب الأسباب الغائية .
وإذا كنا نريد تقدير وقياس أهمية القطيعة الإبستمولوجية التي يحدثها العلم ، فإننا نستطيع مساءلة أنفسنا عن معنى إصلاح النظام التربوي المسمى إصلاح ” هابي ” [ في فرنسا ] في ميدان التعليم العالي : فهذا الإصلاح ينزع ، في ميدان التعليم الابتدائي والإعدادي نحو إبدال الخبرات المعرفية العلمية ، المتهمة بأنها صعبة المنال ، متجهمة ،جافة ، وغير منفتحة على الحياة ، بمعارف يزعم أنها نافعة ( كما لو أن المعارف العلمية الحقة ليست كذلك ) ومباشرة ، كما ينزع نحو تعويض التفسير العلمي للظواهر بالخبرات العملية savoir faire . في هذا الميدان الذي يهمنا بالدرجة الأولى ، نتناول من جديد مشعل باشلار ، ولا نسمح للعلم بالتنازل لبادئ الرأي كي يستحوذ على الساحة التي استوطنها العلم بصبر وأناة .

جاستون باشلار

(1) الرأي بحق ، خاطئ دوما .

إن العلم في حاجته إلى الاكتمال ، كما في مبدئه ، يعارض بإطلاق الرأي . وإذا حدث له في نقطة معينة أن يجعل من الرأي موقفا مشروعا ، فذلك لغايات أخرى غير تلك التي تؤسس الرأي ، بشكل يجعل من الرأي دائما موقفا خاطئا . إن الرأي يفكر بشكل سيء ، بل إنه لا يفكر : إنه يترجم الحاجات العملية إلى معارف ، وبتحديده للأشياء انطلاقا من مردودها العملي يعوق ذاته عن معرفتها . لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي إذ يجب أولا تدميره ، فهو أول عائق يجب تجاوزه ، ولا يكفي مثلا تعديله في نقاط معينة ، والاحتفاظ به كشكل من الأخلاق المؤقـتة ، كمعرفة عامية مؤقتة . إن الروح العلمية تمنعنا من اتخاذ رأي حول مسائل لا نفهمها ولا نستطيع صياغتها بشكل واضح . يجب أن نعرف أولا وقبل كل شيء كيفية طرح المشاكل . ومهما قلنا عن الحياة العملية ، فإن المشاكل لا تطرح من تلقاء ذاتها ، وهذا المعنى بالضبط هو الذي يسم الروح العلمية الحقيقية ؛ فكل معرفة ـ بالنسبة للروح العلمية ـ هي جواب عن سؤال . وإذا لم يكن هنالك سؤال ، فلا يمكن أن تكون هنالك معرفة علمية . إذ لا شيء ينبثق من ذاته ، لا شيء معطى بذاته ، فكل شيء يبنى ” .

ك . باشلار : ” مكونات الروح العلمية ” .
فران 1967 ص : 14 .

لا يسجل العلم فقط ـ بالنسبة لباشلار ـ قطيعة مع بادئ الرأي في اللحظة التي يتكون فيها : إنها قطيعة أبدية دائمة ؛ ففكرة علمية ما تستطيع دائما أن تصير رأيا معقِّما متى ما تم إقرارها وتكريسها . لا يمكن ، إذن ، اعتبار تاريخ الفكر العلمي تاريخا لتطور مستمر متصل ( الأطروحة التي يساندها الإبستمولوجيون القائلون بالاتصال ) ، بل بالعكس ، تاريخا لثورة دائمة تبرز خلالها أفكار مناقضة لأفكار أخرى ، ووقائع مناقضة لوقائع أخرى … الخ . وتحدد هذه ” الجدلية ” الأبدية الحركة الذاتية للعلم المتمثلة في تعديل دائم للأفكار بواسطة الوقائع ، وللوقائع بواسطة الأفكار .

(2) التقدم العلمي متتالية من القطائع .

” يعلن التقدم العلمي دائما عن قطيعة ، عن قطائع أبدية بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية ، وذلك كلما تناولنا علما متطورا ، علما هو بفعل هذه القطائع ذاتها ، يحمل ميزة المعاصرة .
كي نعطي لمشكلة التقدم العلمي أفقها الفلسفي ، علينا أن نفحص عن قرب بعض الاعتراضات المصاغة من طرف أنصار الاستمرارية الثقافية ( . . . ) .
أحد الاعتراضات الطبيعية لأنصار الاستمرارية الثقافية يستدعي استمرارية التاريخ ؛ فما دمنا نقوم باستعراض استمراري للوقائع ، فإننا نظن بسهولة في إمكانية إعادة إحياء الحوادث في استمرارية الزمن ، ونعطي بدون انتباه لمجمل التاريخ صفة وحدة واستمرارية كتاب ما ( . . . ) .
إن الاستمراريين شغوفون بالتفكير في الأصول ، إنهم يهتمون بالبحث عن العناصر الأولى للمعرفة ؛ فالتقدم العلمي يحدث ببطء شديد ، ويظهر أنهم أكثر بطئا وأكثر استمرارية . وكما أن العلم يخرج ببطء من جسد المعارف العامية ، فإنهم يعتقدون في إمكانية امتلاك اليقين النهائي بالاستمرار بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية . وفي المحصلة ، هذه هي المصادر الأساسية للإبستمولوجيا الموضوعة من طرف الاستمراريين : ما دامت البدايات بطيئة فإن أنواع التقدم مستمرة . لذلك لا يذهب الفيلسوف بعيدا ، فهو يظن أن لا جدوى من معايشة الأزمنة الجديدة حيث تنفجر أشكال التقدم العلمي من كل جهة مفجرة معها بالضرورة الإبستمولوجيا التقليدية ( . . . ) .
طريقة أخرى لتمويه الانقطاعات في التطورات العلمية تتمثل في نسب استحقاقها لحشد من الخدام المجهولين ؛ حيث يُعشق الادعاء بأن التطورات كانت ” في الهواء ” عندما حيّنها رجل [ العلم ] العبقري . وبذلك تؤخذ بعين الاعتبار ” الأجواء ” و ” التأثيرات ” . وكلما كنا بعيدين عن الوقائع ، كلما كان سهلا استدعاء ” التأثيرات ” التي تستدعى بدون توقف من أجل الأصول الموغلة في البعد ، فهي تمرّرُ عبر العصور والقارات .غير أن مفهوم التأثير هذا العزيز على الفكر الفلسفي ليس له من معنى في ميدان بلوغ الحقائق والاكتشافات في حضن العلم المعاصر . إن العاملين [ في المختبرات ] يجتمعون بدون شك ، وبدون شك يتعاونون في مجال البحث ، وهم يشكلون الآن فرقا ومدارس ، ولكن عبقرية مختبرات ما تقوم في نفس الوقت على النقــد والتجديد ؛ والنقد الذاتي لدى عمال المختبرات يدحض من جوانب متعددة كل ما ينهض من ” التأثير ” ( . . . ) إنه وصف للفكر العلمي باعتباره فكرا موجها داخل دوغماتية حقيقة لا تناقش ، وتلك ممارسة لعلم ـ نفس كاريكاتوري عفا عليه الزمن ، إذ أن نسيج تاريخ العلم المعاصر هو النسيج الزمني للجدال ، والبراهين التي تتقاطع فيه هي كذلك [ ناجمة عن ] فُرص الانقطاعات .
نوع ثالث من الاعتراضات مستعار من طرف أنصار الاستمرارية الثقافية من مجال البيولوجيا ؛ فما دمنا نعتقد في الاستمرار بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية ، فإننا نعمل على الاحتفاظ بها ونجعل مسألة تقويتها إلزاما لنا ، ونريد أن نستخرج من الحس السليم ، بتؤدة ورفق ، أصول ومبادئ المعرفة العلمية ، وننفر من ممارسة العنف ” بالمعنى العامي ” . زفي مناهج التعليم الأولية نزجي ، كما في لحظات الاستمتاع ، ساعات التلقين الخصبة ، ونتمنى الاحتفاظ بتقليد العلم الأولي ، العلم البسيط ، ونجعل من واجبنا إشراك التلميذ في جمود المعرفة الأولى .يجب عكس ذلك التوصل إلى نقد الثقافة الأولية ، فنلج بذلك مملكة الثقافة العلمية الصعبة والمعقدة .
ها هنا حالة انقطاع لا يمكن محوها بسهولة باستدعاء نزعة نسبية بسيطة : فمن البسيط والسهل أصبحت الكيمياء فجأة صعبة ومعقدة . إنها لم تصبح معقدة بالنسبة لنا فقط ، ولا بالنسبة للفيلسوف فقط ، ولكن وبشكل أكبر صعبة في ذاتها . لن يقبل مؤرخو العلم بدون شك أن توصف الثقافة العلمية لعصرنا بأنها ثقافة صعبة بشكل خاص . إنهم سيعترضون بأنه ـ خلال حركة التاريخ ـ كانت كل أشكال التقدم صعبة ، وسيكرر الفلاسفة أن أطفالنا يتعلمون اليوم في المدرسة وبيسر ما تطلب مجهودا ضخما من العباقرة المتفردين للأزمنة المتطورة . ولكن هذه النسبية الواقعية والبديهية لا تفعل سوى إبراز السمة المطلقة لصعوبة العلوم الفيزيائية والكيميائية المعاصرة متى توجب علينا الخروج من مملكة العناصر الأولية ” .

ك . باشلار : ” المادية العقلانية ”
المطبوعات الجامعية الفرنسية 1972 .
ص ـ ص 213 – 207 .

إن القطيعة الإبستمولوجية هي بالبداهة أكثر ظهورا في العلم المعاصر منه في العلوم عند ولادتها . وباشلار هنا يوضح كلك بواسطة مثال مستعار من تقنية ” عقلانية ” هي عقلانية المصباح الكهربائي الذي يفترض وجوده ذاته لا فقط التخلي عن بادئ الرأي الذي يقنعنا بأن مصباحا لا يمكنه أن يضيء إلا بإحراق مادة معينة ، بل أيضا تشكيل وتأسيس مجموعة بكاملها من المعارف العقلانية تسمح بتصور وصنع الموضوع التقني البالغ التعقيد المتمثل في المصباح [ الكهربائي ] .

(3) مثال تقني ـ علمي للقطيعة : المصباح الكهربائي .

” لنوضح ( . . . ) كيف أن التقنية التي صنعت المصباح الكهربائي ذي الخيط المتوهج تقطع حقيقة مع كل تقنيات الإنارة المستخدمة من طرف الإنسانية كلها حتى القرن 19 . فلكي ننير مكانا في التقنيات القديمة وجب إحراق مادة ما . أما الفن التقني في مصباح أديسون فيقوم على تجنب الإحراق . إن التقنية القديمة هي تقنية الاحتراق ، أما التقنية الجديدة فهي تقنية اللااحتراق .
ولكي نتمكن من هذه الجدلية ، [ نتساءل ] عن المعرفة العقلانية الخاصة التي يتوجب امتلاكها عن الاحتراق | إن أمبريقية الاحتراق لم تعد كافية للذي يكتفي بتصنيف المواد القابلة للاشتعال والاحتراق ، وبتضخيم قيمة المواد القابلة للاحتراق أكثر من غيرها ، وبتمييز بين المواد القابلة للاحتفاظ بالاحتراق والمواد غير القمينة بذلك . يجب أن نمتلك فهما مؤداه أن احتراقا ما هو تأليف لإعاقة الاحتراق ، وليس نموا لقوة جوهرية . وقد أصلحت كيمياء الأوكسجين في العمق ، وبشكل جذري المعرفة المتعلقة بالاحتراق .
في [ إطار ] تقنية اللااحتراق ابتكر أديسون المصباح الكهربائي ، زجاج المصباح المغلق ، المصباح الذي لا يسحب ( الأوكسجين الضروري للاحتراق ) . إن المصباح لم يصنع لكي يعوق توهج المصباح ذاته بفعل التيارات الهوائية ، بل صنع للمحافظة على الفراغ حول السلك المتوهـج ، فليس للمصباح الكهربائي مطلقا أية خاصية مشتركة مع المصباح العادي ، والخاصية الوحيدة التي تسمح بالإشارة إلى المصباحين معا باستخدام نفس اللفظ هي أن كليهما ينيران الغرفة عندما يحل الظلام ، وحتى نجعلهما متقاربين ومتقابلين ، فإننا نجعل منهما هدفا لسلوك حياتي مشترك . لكن هذه الوحدة في الهدف ليست وحدة للفكرة ، إلا لمن لا يفكر في أشياء أخرى غير الهـــــدف ( . . . ) .
ما نريد البرهنة عليه هو أنه في العلم الكهربائي ذاته ، هناك تأسيس لتقنية “غير طبيعية ” ، لتقنية لا تتلقى دروسها من اختبار تجريبي للطبيعة ؛ إذ لا يتعلق الأمر بالفعل ، كما سنشير إلى ذلك ، بالانطلاق من الظواهر الكهربائية كما تعرض للفحص المباشر والفوري .
في العلم الطبيعي للكهرباء في القرن 18 طُرح بدقة التساوي الجوهري بين المبادئ الثلاثـــة : نار ـ كهرباء ـ نور . وبكلمة أخرى ، فإن الكهرباء أخذت من الخصائص البديهية للشرارة الكهربية ؛ فالكهرباء نار ونور ” التيار الكهربائي ، يقول l’abbé bertholon ( كهرباء النباتات . ص : 25 . ) نار محورة ، أو هو بنفس المعنى تيار مشابه تماما للنار والنور ، ذلك لأن له معهما أكبر العلاقات ، وهي المتمثلة في الإنارة واللمعان ، والاشتعال والإحراق ، أو تذويب أجسام معينة : وهذه ظواهر تثبت أن طبيعته هي طبيعة النار ما دامت تأثيراته العامة مشابهة لتأثيرات النار ، ولكنه نار محورة ما دام يختلف عنها من بعض الأوجه ” . وليس هذا الكلام حدسا معزولا لأننا نجده بسهولة في كتب عديدة خلال القرن 18 .
هكذا لا تستطيع المعرفة العامية أن تتطور بتأصلها في القيم الأولى ؛ إنها لا تستطيع هجر أمبريقيتها الأولى ، إن لها من الإجابات أكثر مما لديها من الأسئلة ، إن لديها جوابا عن كل شـيء . وسنرى ذلك في المثال المختار التالي : إذا كانت عصا resine راتنج [ مادة صمغية لزجة تفرزها بعض النباتات لاسيما الصنوبر ] تقذف الشرارات لأقل احتكاك ، فلأنها مليئة بالنار . فلماذا نندهش من هذه الظاهرة الجديدة ؟ … ألم نكن نصنع منذ عهود غابرة مشاعل بواسطة الراتنج ؟ … وهذه الشرارات ليست فقط نورا باردا بل حارا ، وتستطيع أن ماء الحياة ملتهبا ، ماء النار . كل هذه الملاحظات في النمط الأمبريقي للقرن 18 تثبت الاستمرارية بين الحس المشترك والتجربة العلمية . إن الظاهرة التي فاجأتنا أولا لم تكن أبدا إلا مثالا لسريان النار في مجمل الطبيعة وفي الحياة ذاتها ، وكما قال بوت pott باستخدامه للكلمة العالمة phlogistique مصدر اللهب [ سائل تصوره الكيميائيون القدامى لتفسير الاحتراق ] ، ولكن بالتفكير ضمنيا في الكلمة الشعبية : النار : ” إن امتداد هذه المادة ( le phlogistique = مصدر اللهب ) يذهب أبعد في الكون ، فهو منتشر في الطبيعة كلها ولو في توليفات جد مختلفـــــة ” . هكذا ، ليس هناك من حدوس عامة غير الحدوس الساذجة ، والحدوس الساذجة تفسر كل شيء ( . . . ) .
إن صورا كهاته ـ والتي يمكن مضاعفتها ـ توضح بشكل كاف بأي بساطة ينشئ أمبريقي من الملاحظة نسقه ، ومدى السرعة التي يغلق بها هذا النسق . إننا نرى ذلك ؛ فالمعارف العلمية الكهربائية كتلك التي يكونها الملاحظون الأوائل مُلحقة ، وبسرعة ، بكوسمولوجية للنار . ولو تم إنجاز مصباح كهربائي في القرن 18 ، فإن السؤال التالي كان سيطرح لا محالة وهو : كيف يمكن أن تصير النار الكهربائية الكامنة نارا ظاهرة ؟ .. كيف يمكن أن يصير نور الشرارة نورا دائما ؟ .. وكثيرة هي الأسئلة التي تستهدف جوابا مباشرا ، و لا واحدة من هاته النظرات للكون استطاعت أن تقود وتهدي تقنية معينة.
لنعد إذن إلى فحص الظاهرة ـ التقنية . إن التاريخ الفعلي قائم هنا لإثبات أن التقنية عقلانية ، تقنية ملهِمة بواسطة قوانين عقلانية وقوانين جبرية ( الجبر ) ، ونحن نعلم جيدا أن القانون العقلاني الذي يضبط ظواهر المصباح الكهربائي في توهجها هو قانون ” جول ” الذي يخضع للمعادلة الجبرية التالية :
W = RI2t
( W = طاقة ، R : مقاومة ، I : قوة التيار ، t : زمن )
هاهنا علاقة مضبوطة لمفاهيم محددة بدقة . W تسجل في العداد ، RI2t تستهلك بداخل المصباح . إن التنظيم الموضوعي للقيم يتصف بالكمال .
من المعلوم أن الثقافة المجردة شطبت على الحدوس المحسوسة الأولى ؛ إننا لم نعد نقول ـ أو نعتقد بالكاد ـ أن النار والنور يتجولان في خيط الكهرباء العجيب ، لأن التفسير التقني يذهب إلى المعنى المعاكس للتفسير الجوهراني ، وهكذا فإننا عندما نريد أن نحدد بشكل أفضل آثار المقاومة نستدعي المعادلة التالية : . R = P L
s

( P = مقاومة المعدن ، L : طول الخيط الكهربائي ، S : القطع المخروطي للخيط الكهربائي ) . وسندرك الضرورة التقنية لاستعمال خيط طويل ودقيق لتصعيد المقاومة ، وسنتعجب لدقة الخيط المرتعش . إن العامل p يحتفظ بدون شك بتحفظ معين اتجاه الأمبريقية ، ولكنها أمبريقية مؤطرة جيدا ، مؤطرة عقلانيا . ومن جهة أخرى ، يستطيع علم أكثر تطورا أن يأتي في ما بعد ليضاعف فتوحاته ضد هذه الأمبريقية . إن الصناعة المعاصرة بالتصاقها وتشبثها بتقنية محددة ، وباشتغالها على مادة مصفاة بعناية كما هو شأن فلزات ” تنغستن ” تنتهي إلى نوع من عقلنة المادة ؛ فبالنسبة للمعمل الذي يصنع المصابيح ذات السليكات من نوع تنغستن لم يعد العامل p يحتفظ أبدا بأية مفاجأة امبريقية ؛ فهو بمعنى ما منزوع الفردية ماديا ، إذا كنا حساسين اللطائف الفلسفية التي لا يمكن أن يفوتها الاعتراف بالدور الفعلي للعقلنة في صناعة المصابيح الكهربائية بالجملة .
نستطيع إذن أن نؤكد أن المصباح الكهربائي هو موضوع للفكر العلمي ، وبهذه الصفة ، هو مجرد مثال بالنسبة لنا ، ولكنه مثال واضح تماما لموضوع مجرد ـ مشخص ، لنفهم وظيفته ، يجب القيام بانعطاف يقودنا نحو دراسة علاقات الظواهر في ما بينها ؛ أي نحو علم عقلاني معبّر عنه جبريا ” .

ك . باشلار
” العقلانية المطبقة ”
المطبوعات الجامعية الفرنسية 1949 .
ص ص 109 – 105 .

إن للتصور الباشلاري الذي يعرّف العلم كمتتالية من القطائع مع المعرفة العامية نتائج من الأهمية بمكان : فلا يجب أن نبحث للاكتشافات العلمية عن سوابق أو أسلاف . إن باشلار يريد محاربة فكرة ، هي مع ذلك أكثر انتشارا ، يتم الإحساس وفقها بكل المعارف العلمية مسبقا ” في خطوطها الكبرى ” قبل أن يتم بناؤها بشكل صارم . وهكذا فإن القول بأن لوكريس ـ أو لماذا لا ديمُوقريطس ـ هو مبتكر النظرية الذرية للمادة ، هو قول لا معنى له . إنها نظرة للعقل ليؤكد ، كما فعل جوزيف نيدهام ذلك ، أن الاكتشافات المعاصرة حول النسبية والتطور كانت بشكل مسبق متضمنة في الفكر الفلسفي والديني للصين القديمة [” العلم الصيني والغرب ” ـ نقط ـ 1973 . ص 45 وما يليها ] . إنه خلط للفكر العلمي ـ الذي يجهد في إقامة قوانين صارمة ونظريات متماسكة ومثبتة بواسطة التجربة ـ مع أمواج الحدوس الميتافيزيقية . إن الظاهرة النفسية التي تغطي هذا الخلط والبلبلة هي مماثلة للخلط الذي نجده في الحلم المنذر [ بوقوع أحداث معينة ] ، وللطريقة ذاتها التي نلصق بها معنى خاصا بالحلم [ المنذر ] الذي ، بخلاف كل الأحلام الأخرى ، يبدو ومع ذلك أنه يعرض الواقع بشكل فضفاض . وبالمثل فإن من بين النظريات الفلسفية حول المادة والتي لا تحصى ، فإننا لا نحتفظ به من بينها إلا تلك التي لها علاقة ، هي غالبا محض لسنية ، مع الاكتشافات العلمية ( فهناك هوة عميقة بين ذرة لوكريس وذرة روثرفورد ) . ونحن في الحالتين معا نعزو للضرورة ما هو ناشئ عن مجرد الصدفة .
نفس الشيء يقال عن الإبداعات التقنية : فمما لا معنى له ، وما هو ساذج أن ننسب لليوناردو دافينشي اختراع مظلة هبوط المظليين أو الهيليكوبتر أكثر من كوننا نجعل من جول فيرن أب الرجال ـ الضفادع ؛ فهذا النوع من السخافات المروّجة تجاريا ببراعة وتعالم شديد الخطورة ، حيث تنزع إلى اختزال قيمة هذه الابتكارات وتجعل منها مجرد أفكار فضفاضة هي في مقدور أي عقل متخيِّل .