أصول الثقافة

كيف كانت القدرات العقلية والذهنية لأوائل البشر؟ .. ومتى كان ميلاد اللغة؟.. وما الذي يميز الإنسان العاقل Homo Sapiens عن الحيوانات العليا الأخرى ؟ .. لقد غدا بالإمكان اليوم، وبفضل عديد من الأبحاث القريبة العهد منا، رسم عدة سيناريوهات لمسألة نشأة وظهور الثقافة لدى الكائنات الإنسانية.

بقلم : فرانسوا دورتيي

عن : مجلة العلوم الإنسانية ـ عدد 105

لماذا أكلت أبي؟.لماذا أكلت أبي ؟ ” هو عنوان رواية روي لويس التي تجري وقائعها قبل بضع مئات الآلاف من السنين ، أي في قلب ما قبل التاريخ. في تلك الرواية نجد إدوارد ؛ وهو إنسان من المرحلة الباليوليتيكية مشغولا باكتشاف تقنيات جديدة ومناضلا من أجل تحقيق التقدم تحت أعين عائلته المنبهرة والمتشككة. وعندما حاول تطويع النار واستخدامها في البيت حذره أخوه فانيا، وهوPithécanthrope  قرد إنساني محافظ ورجعي، من فعل ذلك.إن هنالك اختلافا عميقا يقوم فيما بين الرجلين ؛ فإدوارد يشير إلى مزايا النار المتعددة : وهي أننا نستطيع أن نطهو بها اللحم ، وأن نستدفئ بها وقت البرد ، وأن نطرد البعوض وندافع عن أنفسنا أمام الوحوش الضارية . أما فانيا فيعرض مخاطر النار : كالحروق ، وخاصة الخطر الأكبر المتمثل في إحراق الغابة عن آخرها ، والرغبة في ترويض النار كما يقول محذرا ” معناه لعب دور معلم السحر . لنكن واقعيين ، وعلينا أن نكتفي بالحجارة المنحوتة “. وهو أمام خطوات التقدم السريعة للأنسنة يدافع عن شعاره الأساسي ” لنعد إلى الغابة والأشجار “.

وكجواب على أطفاله المشدوهين والذين يسألونه لماذا لا نكتفي فقط بنحت الأحجار للاستعمالات المختلفة ، ولماذا يتوجب علينا دائما أن نتعلم أن نخترع ونبتكر وأن نتقدم إلى الأمام ، وأن نروم التقدم في إطار الأنسنة ، سيجيب إدوارد في أحد الأيام وبكلام جهوري : ” إنتظر . .  وانظر “.

إن كتاب ر. لويس يأتي كجواب فكاهي على لغز علمي كبير ، هو لغز أصول الإنسان : متى وكيف ولماذا بدأ أحد الحيوانات العليا في غابات إفريقيا يفكر ويخترع الأدوات واللغة، ثم الفن والأديان والقوانين الاجتماعية، وتحول بذلك إلى نوع متميز من الكائنات الحية ؟ .. ولقد غدا بالإمكان بفضل الأرشيفات الأركيولوجية : عظام متحجرة ـ أدوات حجرية منحوتة ـ آثار منازل ـ مدافن ـ رسوم على الصخور ، وتواريخها التي أضحت دقتها تتزايد يوما عن يوم ، إعادة تشكيل وبناء الخطوط الكبرى لجينيالويا الأنسنة ، غير أن هذه المعطيات لا تنورنا كثيرا بخصوص القدرات العقلية لدى أناس ما قبل التاريخ ، كيف كانت ثقافتهم وتمثلاتهم ؟ ..لماذا ـ على سبيل المثال تـ هناك هوة تقدر على الأقل بمليونين من السنوات فيما بين أولى الأدوات من جهة ، والآثار الأولى للفن من جهة أخرى ؟.. ومتى ظهرت اللغة والتفكير الرمزي ؟ ..

حقول جديدة للبحث في ميادين الأركيولوجيا الذهنية وعلم النفس التطوري والإيتولوجيا وعلوم الأعصاب ، مكنت كلها من صياغة السيناريوهات المتعلقة بنشاة وبزوغ الثقافة في تاريخ الإنسانية.

من هو إنسان إفريقيا القديم Australopithèque؟..

Australopithecus afarensis

Australopithecus afarensis

لقد جرت وقائع ما قبل تاريخ الإنسانية في خطوطه العريضة خلال ثلاث لحظات : في المنطلق كان هناك إنسان إفريقيا القيم أو القرد الجنوبي Australopithècus وهو ضرب من القردة الضخمة التي تمشي على قدمين والتي عاشت في إفريقيا ما بين 4 إلى 1 مليون سنة. اللحظة الثانية انفتحت الصنف الإنساني المسمى Homo والذي ظهر منذ أكثر من مليونين من السنوات. ولقد عرف دماغ هذا الأخير تطورا كبيرا ( بتضاعف حجمه 3 مرات خلال 1,5 مليون سنة ) وانخرط في صناعة الأدوات.

وأخيرا جاء الصنف المسمى الإنسان العاقل Homo Sapiens منذ 150 ألف سنة تقريبا ، ومعه سيحدث منذ 4 آلاف سنة انفجار ثقافي حقيقي بظهور الملابس والفن والمدافن والطقوس المقدسة. . . لكنه يتوجب علينا حتى نستوعب ما حدث بشكل جيد أن نبدأ الحكاية من بدايتها.

طفل " تونغ "لقد بدأ إذن تاريخ الصنف الإنساني  Les Hominidés بإفريقيا منذ 5 ملايين سنة ، وذلك بفعل ظهور إنسان إفريقيا القديم    Australopithèque ، ونحن ندين باكتشافه لعالم ما قبل التاريخ رايموند دارت ( 1893 ـ 1988 ) الذي اكتشف بإفريقيا الجنوبية سنة 1924 متحجرة طفل بدت أنها جد متميزة ؛ فقد كانت جمجمة ” طفل تونغ ” تأخذ خصائصها في نفس الآن من الحيوانات العليا ومن البشر، وقد بدا أنها تشكل ” الحلقة المفقودة ” في ما بين أسلاف الإنسان وأسلاف

جمجمة الطفل " تونغ "

القردة العليا ، وقد أطلق ر . دارت على هذا المخلوق إسم Australopithècus.

الشابة لوسيغير أن تاريخ ونمط عيش أناس إفريقيا القدماء لم يبدأ التعرف عليهما حقيقة إلا انطلاقا من سنوات الستينيات بفعل حملات التنقيب التي قام بها الزوجان ليكي في منطقة البحيرات الكبرى بشرق إفريقيا. تم اكتشاف ” لوسي ” سنة 1974 من طرف فريق إيفز كوبيش وموريس طيب وجون كلب ودونالد جونسون ، وأخيرا من خلال التحيينات القريبة العهد للأنواع الجديدة من إنسان إفريقيا القديم بكل من إفريقيا الجنوبية وتشاد وإثيوبيا منذ منتصف التسعينيات.

ظاهريا ومن الخارج تبدو هذه الكائنات شبيهة بالقردة العليا ، وحجم جمجمة الصنف من إنسان إفريقيا القديم المسمى  Australopithècus afarensis ( مثل لوسي ) هو 400 سنتم 3 ( أكبر بالكاد من جمجمة الشامبانزي ) ، غير أن تكوينها مغاير لتكوين جمجمة الشامبانزي ؛ فالثقب القذالي في مؤخرة الرأس ( حيث يمر النخاع الشوكي ) ينفتح نحو الأسفل ، وهو ما يعتبر مؤشرا على المشي المنتصب ( على قدمين ) ، القامة تقريبا 1,40م لدى الذكور و 1,15م لدى الإناث ، وهذه الثنائية الجنسية ( الاختلافات الجسدية الكبيرة فيما بين الذكر والأنثى ) هي فضلا عن ذلك مؤشر مهم على عاداتهم الجنسية. وبالفعل ، فلدى القردة العليا كالغوريلا أو نسناس هامادرياس ارتباط فيما بين ثنائية جنسية قوية وممارسات الحريم؛ فالذكور ينخرطون في المعارك ، والأقوى من بينهم هو الذي يحوز مجموعة من الإناث ، وبالمقابل أو بالعكس ، فإن هذه الثنائية هي أقل بروزا وظهورا لدى الأنواع الوحيدة الأنثى كالجيبون Gibbons أو لدى الأنواع التي يسود لديها نوع من الاختلاط الجنسي كقردة الشامبانزي.

الشابة " لوسي " في تصور آخر

الشابة " لوسي " في تصور آخر

يعتقد أن أناس إفريقيا القدماء عاشوا ، كالقردة العليا الحالية ، في جماعات صغيرة مكونة من بضعة عشرات من الأفراد الذين يحتلون رقعة معينة ، وعلى الأرجح أنهم غادروا الغابات الاستوائية للعيش في منطقة السافانا المشجرة على مقربة من البحيرات والأنهار. وقد توزع نظامهم الغذائي ما بين قطف الفواكه والنباتات المختلفة ، وصيد صغار الحيوانات الثديية في بعض الأحيان.لكن، وبخصوص السؤال، ما ذا عن قدراتهم الذهنية ؟..فإن من المقبول اليوم تشبيهها بالقدرات الذهنية لدى الشامبانزي ؛ فلدى كليهما جد مشترك عاش منذ 5 أو 7 ملايين سنة ، أي ، وعلى أقل تقدير ، مليون سنة قبل ظهور إنسان لإفريقيا القديم  Australopithècus.

لقد كان المتخصص المشهور في الحيوانات العليا جان جودال من أوائل الذين قاموا بملاحظة قردة الشامبانزي في وسطها الطبيعي بالغابة التانزانية ، ثم إن عالم ما قبل التاريخ لويس ليكي كان هو من شجعه على القيام بأبحاثه حتى نتمكن من فهم أفضل لما كان عليه نمط حياة إنسان إفريقيا القديم.ونحن نعلم اليوم ، بفضل ج. جودال وكل فرق البحث التي تلته ، أن قردة الشامبانزي تحوز ضربا من الذكاء التقني ؛ فهي تصنع أسرة من جذوع الأشجار قبل النوم ، وتستعمل بعض العصي الصغيرة لصيد النمل من داخل مساكنها ، كما تكسر كرات الكوكو بالحجارة التي تستعمل إحداها كسندان والأخرى كمطرقة ، وفضلا عن ذلك فقد برهن فريديريك جوليان ، وهو متخصص في ثقافة الشامبانزي ، على وجود معامل حقيقية لتكسير أنوية الكوكو لدى الشامبانزي ، يوجد بعضها منذ 150 أو 200 سنة. وبالفعل ، فلتكسير نواة كوكو عن طريق حجر ، لا بد من التمكن أولا من التقنية الخاصة بذلك ، فهي تتكسر عند تلقيها ضربة عنيفة ، لكن ضربها فوق أرض مبتلة يؤدي إلى غوصها في الأرض.(1) . . . ويبدو أن إناث الشامبانزي البالغات يعلمن صغارهن كيفية القيام بذلك ، وهؤلاء لا ينجحون في ذلك لوحدهم إلا بعد مرور زمن معين.

خريطة مواقع الاكتشافات

خريطة مواقع الاكتشافات

دراسة حديثة منشورة في مجلة ” طبيعة ” تبرهن حتى على وجود تقاليد ثقافية محلية لدى هذا النوع من القردة: فالطريقة التي يلجأ إليها شامبانزيو تانزانيا لصيد النمل تختلف عن الطريقة التي يلجأ إليها شامبانزيو ساحل العاج أو أوغندا ، وكل شيء يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه التقاليد تم اكتسابها عن طريق التعلم ونقلها جيلا بعد جيل. الذكاء الاجتماعي أيضا متطور لدى الشامبانزي ، فهي باعتبارها حيوانات استراتيجية قادرة على ممارسة الخداع والاحتيال ، مثلا عن طريف إطلاق صرخة تحذير لتحويل انتباه الجماعة والاستيلاء على الطعام بسهولة.وأخيرا ، فنحن نعلم أنها تتوفر على تمثلات عقلية ( لمنطقتها الترابية ) وعلى وعي بالذات ، وأنها قادرة على تشكيل رموز للتعبير بها عن أشياء أو أفعال (2).إن مجموع هذه الملاحظات يؤكد أن قردة الشامبانزي ، كما هو حال أغلب الثدييات ، لا تكتفي بالتصرف انطلاقا من غرائزها ؛ إذ أن جزءا سلوكها هو مكتسب عن طريق اللعب والتجربة والمحاكاة؛ فصغير الشامبانزي يكتشف قواعد اللعب الاجتماعية كما يتعلم أيضا كيف يتغذى وكيف يصنع سرسر نومه من أغصان الأشجار ، وفترة ” الشباب ” التي تسبق فترة النضج والرشد لدى هذه القردة ـ أي ثلث العمر : 10 سنوات تقريبا ـ هي فضلا عن ذلك ذات دلالة بخصوص طول فترة التعلم والاكتساب لدى هذه القردة. وفي المحصلة ، فالقرد لا يولد قردا ، وإنما يغدو كذلك . . . وهذا بدون شك ينسحب أيضا على إنسان إفريقيا القديم Australopithècus.

التطور التاريخي لصنف البشر

التطور التاريخي لصنف البشر Homonidés

مراحل تطور الصنف البشري بملايين السنين

مراحل تطور الصنف البشري بملايين السنين

هل يمكن الحديث إذن عن ” ثقافة ” القردة العليا وإنسان إفريقيا القديم Australopithècus؟..إذا كنا نعني بذلك وجود التعلم والخبرة العملية والسلوكات الاجتماعية المكتسبة والمنقولة في كنف الجماعة ، الجواب بكل وضوح هو نعم .

هل سيؤدي بنا هذا إلى الاعتراف بأنه لا توجد فروق فيما بين إنسان إفريقيا القديم والناس الحاليين إلا من حيث الدرجة ؟ .. ومع ذلك ، فليس هذا هو الاستنتاج الذي ينتهي أغلب الاختصاصيين ؛ فالشامبانزي كإنسان إفريقيا القديم يستخدمان بعض الأدوات القليلة جدا لكنهما لا يصنعانها . المحاولات التي أجريت بغرض تعليم قردة الشامبانزي كيفية صنع أدوات من الحجارة باءت كلها بالفشل. كذلك ، فإن محاولات جعلها تتعلم لغة العلامات والإشارات أبانت أيضا عن محدوديتها. إن قردة الشامبانزي تستطيع تعلم 200 كلمة واستعمالها بشكل جيد ، وتستطيع أن تركب كلمتين ( وناذرا ثلاثة ) لصياغة طلب ما ، غير أنها لم تستطع أبدا ومطلقا تجاوز هذه التركيبات الأولية وصياغة جمل حقيقية. المسألة المثيرة للانتباه هي أنها تستعمل دوما هذه المضغة اللغوية في سياق طلب جد خاص ( ” واشو بنان ” ) أو كجواب على سؤال ، ( فعندما تسأله عن لون شيء ما ، يمكن لواشو أن يجيب قائلا ” كرة زرقاء ” ) ، وهو لا يستعملها مطلقا لطرح أسئلة أو لإبداء ملاحظات عفوية أو حتى لقص بعض القصص (3) . وأخيرا ، وكما أشار إلى ذلك الأنثروبولوجي الأمريكي لان تاتيرسال ، مدير متحف التاريخ الطبيعي بنيويورك ، فنحن لا نقف في مسلكيات الشامبانزي على سلوك يشير إلى إنجاز أنشطة تدخل في إطار ” مشاريع ” على المدى الطويل (4). توجد إذن هوة فيما بين ذكاء إنسان إفريقيا القديم ( مقارنة بذكاء الشامبانزي ) وذكاء الصنف الإنساني Homo  الذي سيعرف ظهوره هو أيضا بدوره على أرض إفريقيا.


النار

الإنسان Homo وصناعة الأدوات

الإنسان الماهر

الإنسان الماهر

أولى نماذج هذا النوع المسمى Homo عرفت ظهورها بإفريقيا منذ مليونين من السنين ، وإذا كانت قد اختزلت منذ عهد قريب في نوعين أساسيين كبيرين : الإنسان الماهر Homo Habilis و الإنسان المستقيم القد Homo Erectus ، فإن أسرة Homo التي سبقت الإنسان العاقل Homo sapiens تعقدت في السنوات الأخيرة بفعل اكتشاف مجموعة بكاملها من الأنواع الجديدة ( Homo Rudolfensis و Homo Ergaster و Homo Heidelbergensis و Homo Antecessor ) . وهناك ما يدفع إلى المراهنة بقوة على أن اللائحة ستستمر في الطول، بالشكل الذي يمنعنا من تصور التطور الإنساني على شكل خطي، وإنما كخطاطة كثيرة الأدغال والمجاهل عرفت تعايش عدد من أنواع صنف Homo

المختلفة (5).

الإنسان المستقيم القد

الإنسان المستقيم القد

إن التجديد الأساسي الذي جاء به  Homoكان متمثلا في صناعة أولى الأدوات ، فقد لجأ بغرض تقطيع اللحم وتكسير عظام الحيوانات الضخمة إلى تكسير الحجارة الكبيرة لجعل جزء منها حادا وقادرا علة إنجاز هذه العملية ، وقد سميت هذه التكنولوجيا الأولى ( الصناعة الأولدوفانية ) نسبة إلى موقع أولدوفاي بتنزانيا .

لقد تم التساؤل عن القدرات العقلية الضرورية لإنجاز وصناعة هذه الأدوات ، وقد اعتمد عالم ما قبل التاريخ أندريه لوروا ـ كوربان مفهوم ” السلسلة الإجرائية ” للإشارة إلى تتابع العمليات المعتمدة في صناعة هذه الأدوات . ومن زاوية النظر هاته فقد افترض زميله جاك بيليكران أن الصناعة الأولدوفانية استلزمت حقا تمثلا للهدف المراد إنجازه حتى ولو أن جرعة العمل الفعلي لإنجازه كانت ضعيفة؛ فعملية السبك كانت فظة وخشنة.أما توماس ج.واين من كولورادو ، فقد اعترض على هذا التأويل وانتقد وهم ” الهدف الغائي ” ؛ فالأدوات الأولدوفانية لا تفترض ذكاء أعلى أو يفوق ذكاء القردة (6).

وبالمقابل ، فإن التجديد التقني الذي يشكله بروز الأدوات الحجرية يترجم مرحلة عقلية لا ينازع فيها أحد. إن هذه الأدوات هي أدوات من الحجر بأشكال محددة ، إنها تشبه لوزة كبيرة بحدين قاطعين ، وخصوصيتها تكمن في كونها مسطحة بما يكفي ومتناسبة الأبعاد سوا نظرنا إليها من الوجه أو من الظهر. إن تجارب الأركيولوجيا التجريبية تبين الرهافة ومدة التعلم الطويلة   المطلوبة حتى يغدو ممكنا نحت أدوات حجرية جميلة، خاصة ، وكما هو واضح ، أنها صنعت إراديا وانطلاقا من ” فكرة في الذهن ” ، بل ويمكن أن تكون معنى جماليا حتى. مع هذه الأدوات تم الانتقال بشكل لا يقبل النقاش إلى مجال الفعل المخطط له بلحظات إنجازه وأهدافه وغاياته الوسيطة، إلى جانب إسقاط صورة ذهنية على موضوع محدد.

الأدوات الحجرية المنحوتة

ومنذ ذلك الحين برز السؤال : هل تواجد الذكاء المستخدم في صناعة هذه الأدوات في مجالات أخرى كمجال اللغة أو الحياة الاجتماعية ؟ .. أم يتعلق الأمر بسلوك متخصص ظل محتبسا بداخل قطاع تقني ؟ .. إن السؤال مفتوح ، وهو يدعونا إلى التساؤل عن أحد ألغاز هذه الفترة . ظهرت هذه  الأدوات  منذ مليون سنة ونصف ، وتم تواجد Bifaces acheuléens الأدوات الحجرية الأشولية بأوربا خلال أكثر من مليون سنة تقريبا في كل مكان من إفريقيا وآسيا وأوربا ، وعلى مر الزمن تحسنت تقنية الصنع ، غير أن الخطاطة الذهنية ظلت على حالها . وبالمقابل ، لم نجد أي آثار أخرى لتقنيات أكثر اكنمالا وإعدادا و لا للفن ولطقوس الدفن والملابس ، تلك التقنيات التي سترتبط فيما بعد بالإنسان العاقل Homo Sapiens .

الابتكار الكبير الآخر والوحيد في هذه الفترة هو تدجين النار ، وهو ما يوضع في سجل حسنات إنسان العصر الباليوليتيكي السفلي Homo du Paléolithique inférieur .

لقد قاد لغز ثقافة القدماء من صنف البشر ـ وهي ثقافة أعلى بوضوح من ثقافة إنسان جاوا ( القرد الإنساني ) Australopithèque لكنها دون ثقافة الإنسان العاقل ـ قاد  بعض الكتاب نحو تصور وجود ثقافة أولية وسيطة ؛ ففي كتابه ” أصول الفكر المعاصر ” (7) دعم عالم النفس الأمريكي ميرلان دونالد فكر تقول إن أوائل فصيلة البشر ابتكروا نمطا خاصا من الثقافة : هو الثقافة الميمية القائمة على التمثيلات الحركية ، حيث التواصل فيها قائم على الحركات الميمية والتعلم على محاكاة البالغين و ” المبتكرين ” . وقد مكنت هذه المرحلة ، حسب السيد دونالد ، من الولوج إلى صيغة من التمثيل وسيطة في ما بين مجرد الإشارة ( وضعية التهديد ـ صرخة الاستغاثة ) والتمثيل الرمزي ( عن طريق اللغة ).

و لفهم ما يمكن أن تكون عليه هذه الثقافة الميمية، لنتصور شخصين يجهل كل واحد منهما كل شيء عن لغة الآخر، ويحاول التواصل معه، فليفهم كل منهما الآخر سيلجأ إلى التعبير ميميا عن الأفعال أو المناشط التي يود التعبير عنها ، وهو لكي يتلفظ كلمة ” الأكل ” يمكنه أن يرفع يده إلى فمه ، وللحديث عن طائر يمكن التعبير ميميا على حركات أجنحة الطائر بشكل ميمي ، ولتنظيم الصيد ، يمكن القيام بلعب مشهد الصيد وتمثيله.

الإنسان العاقل والنياندرتال

الإنسان العاقل والنياندرتال

هل كان صنف البشر يمتلك لغة محددة؟ ..

إن هذا الميم يستلزم صيغة خاصة في التمثيل ، إنه يمكن من صياغة تعليمات بسيطة ( ” جئني بتفاحة ” ) ومعاينات ( ” إنه عظيم ! ” ) والتعبير عن تساؤلات ( ” أين هي الفتاة الصغيرة ؟.. ” ) ووصف وضعية معينة ( ” هناك ثعبان في الشجرة ” ) . غير أن هذا النمط من التمثيل يظل جد محدود ؛ فهو يجعل من المستحيل صياغة مفاهيم مجردة ( إذ يمكن وصف كلب لكن لا يمكن الحديث عن ” حيوان ” بل لا يمكن أكثر من ذلك الحديث عن ” كائن حي ” ) وكذا الأفكار المركبة ( ” أعمار الورود أقصر من أعمارنا ” ، ” لقد قابلت عمي الذي أخبرني أنه بحاجة إلينا ” ) وبالأخص القصص المصنوعة كالأساطير أو الخرافات.

لقد مكنت هذه الثقافة الميمية المتمحورة حول النشاط العملي في نظر السيد دونالد من الحديث عن الموضوعات الغائبة والوضعيات المستقبلية ( مشهد الصيد ) حتى دون بلوغ درجة أعلى من الترميز.

إن أطروحة السيد دونالد فاتنة ، غير أنها لا تقوم على أي معطى أركيولوجي مقنع وحاسم ، والرقص وبعض الطقوس والشعائر حسبه هي البقايا والأطلال المعاصرة لهده الثقافة . غير أن لنظريته أهمية تتمثل في محاولة تصور شكل بدائي من الثقافة، وهي تؤدي بنا خاصة إلى التساؤل بخصوص نقطة حاسمة : هي مسألة القدرات المحض لغوية لدى صنف البشر ، فهل كان صنف الإنسان Homo يمتلك لغة ؟ .. بخصوص هذه النقطة نجد المؤشرات التشريحية متناقضة. لقد اعتقد فيليب ف. توبياس ، أحد مكتشفي الإنسان الماهر ،أنه لاحظ في قالب الجمجمة بداية لتشكل الفضاءات المرتبطة باللغة ، ومن ثمة فهو يحدد تاريخ ظهور اللغة في 2 مليون سنة تقريبا (8) ، غير أن مؤشرات أخرى كغياب حنجرة متلائمة مع وظائف اللغة يدعونا إلى الاعتقاد بأنه كان يستحيل على أسلاف الإنسان العاقل أن يمفصلوا ويركبوا الأصوات الضرورية للكلام . وبالنتيجة فإن : ل. تاتيرسال يحدد ميلاد اللغة في تاريخ أقرب بكثير كمتدخلة مع أوائل أفراد الإنسان العاقل منذ 50.000 سنة. ومن ثمة فإننا نجد أن التقديرات المتعلقة بميلاد اللغة ـ ما بين – 2 مليون من السنوات و – 50.000 سنة ـ جد متباعدة ومختلفة. ولمحاولة ردم هذه الهوة في ما بين الفرضيات المتطرفة ، قام البعض بتصور سيناريوهات وسيطة ؛ تلك حالة اللساني ديريك بيكرتون في كتابه ” اللغة والأنواع  Language and Species (9) وهو يفترض إمكانية وجود لغة أولية تكلمها الإنسان المستقيم القد ستكون شبيهة وقريبة من لغة الأطفال ما دون السنة الثانية من العمر من جهة ، واللغة المكتسبة من قبل قردة الشامبانزي من جهة أخرى. إن هذه اللغة الأولية مكونة من تركيبات فيما بين الكلمات المعبرة مباشرة عن موضوع ما أو شخص ما أو فعل ما ( على سبيل المثال ” encore boire ” أو ” pas dodo ” ) . إننا نجد بها كلمات ـ جملا ، وجزيئات صغيرة من المعنى مكونة من تركيب كلمتين.

إن الثقافة الرمزية لم تظهر بالنسبة لـ د. بيكرتون إلا مع ظهور الرموز المجردة والتركيب الذي مكن من بناء مقاطع مركبة. وحسب هذه الخطاطة ، فإن اللغة الموضوعة والمكتملة هي مفتاح الحرية النفسية لدى الكائن البشري التي تفسر القفزة الثقافية الكبرى لدى الإنسان العاقل.

أما تيرينس و. ديكون ، وهو باحث بجامعة بوسطن ، فيتصور سيناريوها يقوم على التطور المشترك لكل من المخ واللغة والتفكير الرمزي، وهو يعرض في كتابه ” الأنواع الرمزية The symbolic Species “أن التطور التكيفي المشترك لكل من المخ واللغة هو الذي صاحب ميلاد التفكير الرمزي.

وكخلاصة ،فإن أوائل صنف البشر  ( Ergaster ; Erectus ) . . الخ امتلكوا ثقافة أكثر اكتمالا من ثقافة إنسان جاوا ، وقد مكنتهم من تطوير أدوات التحكم في النار ، إنها مقطع أساسي في مجال التطور الثقافي . ومن خلال تجميع أطروحات كل من م. دونالد و د. بيكرتون و ت.و. ديكون يمكننا رسم المعالم الخارجية لهذه الثقافة الأولية.

إن البشر لم يعودوا يحيون في عالم المباشرة والعلاقات المباشرة فيما بين الأفراد أو فيما بين الناس والطبيعة، لقد غدا من الممكن وضع مخطط للأنشطة على المدى المتوسط وتصور خطة مكتملة للصيد وتنظيم الأنشطة في كنف فريق ما.

كما غدا أمرا ممكنا وقابلا للتحقيق التواصل الأكثر اكتمالا ؛ أي ذلك الذي يتجاوز مجرد التعبير عن العواطف ، فهو يمكن من نقل المعلومات ( من خلال بيان أن هناك نمرا في هذا المكان أو ذاك على سبيل المثال ) وتنظيم حياة مجتمعية على قاعدة الأوامر والتحريمات والتعاقدات وربما المبادلات فيما بين الجماعات. وبدون شك فإن الحياة الاجتماعية تغيرت خلال هذه الحقبة تغيرا كبيرا.

يبقى أن الفترة الباليوليتيكية السفلى لم تخلف أي أثر للفن أو الطقوس أو المعتقدات الدينية أو التنوع التكنولوجي، إذ لهدا الغرض كان لا بد من انتظار قدوم الإنسان العاقل ، فمعه إذ ذاك سيتم تدشين عصر جديد.

إن شروط وظروف ظهور الإنسان العاقل منذ حوالي 150 ألف سنة تظل موضوع منازعات حادة، وفي هذا الإطار نجد ثلاثة سيناريوهات متعارضة: السيناريو الأول يسمى السيناريو المتعدد الجهات ( عبر التطور المتوازي للإنسان المستقيم القد بإفريقيا وآسيا وأوربا نحو الإنسان العاقل ). السيناريو الثاني هو سيناريو حواء الإفريقية ( حيث سيظهر الإنسان العقل بإفريقيا ثم سيتوزع بعد ذلك على مجموع الكرة الأرضية ).والثالث هو سيناريو ناتج عن خلط السيناريوهين السابقين وهو يسمى السيناريو المتشابك.

الإنسان العاقل والانفجار الثقافي

النياندرتال

النياندرتال

اليقين الحالي الوحيد هو أن أوائل الإنسان العاقل ظهروا منذ 150 ألف سنة تقريبا ، وقد تضمن هذا الصنف نوعين مختلفين : النياندرتال وكرومانيون ؛ النياندرتال هو ابن عمنا البعيد الذي اختفى منذ 30 ألف سنة دون أن يخلف وراءه أي عقب ، أما كرومانيون فهو سلفنا المباشر.

الكرومانيون

الكرومانيون

سيمضي هؤلاء البشر المعاصرون إلى ابتكار ممارسات لم تكن معروفة إلى ذلك الحين؛ فمنذ – 40.000 سنة في الوقت الذي بدأ فيه النياندرتال في الانقراض، حدث انفجار ثقافي حقيقي مع الكرومانيون، هذا الانفجار الثقافي العظيم موسوم بعدة أحداث مجتمعة ومتداخلة فيما بينها: تنوع وتعقد الأدوات ( سهام ـ مخاطيف ـ إبر)، ظهور الملابس والأكواخ والقلادات ، بداية فن الرسم على الصخور ظهور أولى التماثيل . . . إلخ، مغارات لاسكو و شوفي برسوماتها الحيوانية وأياديها الملغزة هي بطبيعة الحال الرمز الأكثر شهرة لهذه الفترة ( ما بين – 32000 و – 17000 ).

المغارات المشهورة بالرسوم الصخرية

المغارات المشهورة بالرسوم الصخرية

وفي نفس الآن كان الكرومانيون يدفنون موتاهم وفق طقوس تشهد بصفة قاطعة على وجود الإيمان بحياة أخرى في العالم الآخر. المدافن التي تم العثور عليها في موقع سونغير بروسيا هي البرهان الأكثر دلالة على ذلك ؛ فهناك دفن منذ 28 ألف سنة شخصان شابان ورجل في الستين من عمره ، وقد كفنوا بثياب مطرزة بحوالي 3000 جوهرة من العاج ، كل واحدة منها تطلبت على الأقل ساعة من العمل لإنجازها. في الأعناق والأيادي كانوا يحملون قلادات ودمالج من الأصداف ، وفي مكان مقابل لهم تم العثور على نابين طويلين من أنياب الماموث تم تقويم اعوجاجهما حتى أضحيا مستقيمين ( عن طريق الماء الساخن جدا دون شك ) ، ويحتوي القبر على أدوات من العظام وبعض المنحوتات الصغيرة. إن عملا مثل هذا يفترض بشكل قاطع أنه تم إلباسهم وتزويدهم بمعدات الذهاب إلى العالم الآخر. إن دفن الموتى والفن والأدوات المعقدة والمعتقدات الدينية، كل هذه الظواهر الثقافية ظهرت خلال بضعة آلاف من السنين، مما يحفزنا على الربط المباشر بين هذه الظواهر والتساؤل عما إذا لم تكن تعبيرا عن شكل جيد من التفكير؟ ..

في كتابه ” ما قبل تاريخ العقل The préhistory of the mind ” يفسر الأركيولوجي الإنجليزي ستيفن ميثن الانفجار الثقافي في العصر الباليوليتيكي الأدنى والمتوسط بالطريقة التالية (10) ، لقد سبق للإنسان المنتصب أن طور عدة كفايات متخصصة: الذكاء التقني المرتبط بصناعة الأدوات ، والذي يستلزم التخطيط للنشطة وإسقاط الصورة الذهنية لموضوع قيد الإنجاز ، ولقد كان يمتلك الذكاء الاجتماعي والتواصلي الذي يفترض فهم نوايا الآخر وبداية للترميز ، ولقد تعلم أيضا عددا من الأشياء تخص العالم الطبيعي والمزروعات والحيوانات ، وعلمها لصغاره . أما مع الإنسان العاقل فكان هناك ـ حسب س. ميثن انصهار فيما بين هذه الكفايات كلها ، وقد تشكل هذا الانصهار على صورة ذكاء عام أو ” ما بعد تمثيلي ” . وقد ظهر هذا الذكاء العام ما بين – 30.000 و – 60.000 سنة.

لقد وصف س. ميثن نموذجه انطلاقا من إحدى الاستعارات ، هي استعارة الكنيسة القوطية ، وهي منظمة حوالي عدة كنائس ومصليات صغيرة ( كفايات متخصصة ) ، لكنها مترابطة عن طريق صحن الكنيسة المركزي ( الذكاء العام ). من إعادة التنظيم العفلية هاته ولدت مجالات روحية جديدة ( الفن ـ الدين ) وبذلك عرفت كل المناشط المتخصصة إعادة تنظيمها من جديد.

إن سيناريو نشوء الفكر هذا يستحق القيام بتركيب للأبحاث والفرضيات المتعلقة بمسألة الأنسنة ، إنه يروم خاصة إدراج نظريات علم النفس التطوري والنظريات المنافحة عن فكرة ذكاء رمزي عام. إن نموذج س. ميثن ، كأي نظرية عامة ، يدع في الظل مع ذلك أسئلة معقدة تخص العلاقات بين مختلف صيغ الذكاء التقنية أو الاجتماعية ودرجات اللغة. وقد تطورت بخصوص هذه الموضوعات العديد من الأبحاث والتأويلات خلال السنوات الأخيرة (11) ، إلا أن غالبية النماذج تتفق مع ذلك ، على أن الإنسانية عرفت مع ظهور الإنسان العاقل حقبة جديدة جذريا من حقب التطور الثقافي.

مع هذه الحقبة دخلت البشرية عالما جديدا، هو عالم الثقافة والتفكير الرمزي ، وقد تم تعريف هذا الفكر الرمزي من قبل ل. تاتيرسال باعتباره : ” قدرة على إنتاج الرموز العقلية المعقدة والتحكم فيها بتركيبها في توليفات جديدة ، وهذا هو عمق الخيال والإبداع ذاتهما ؛ في هذه القدرة الوحيدة من نوعها التي يمتلكها البشر لخلق العالم في أذهانهم وإعادة خلقه في العالم الواقعي ، أي خارج ذواتهم ذاتها (12) “.

انطلاقا من ذلك انفتح عصر جديد ، بعده سيغدو الإنسان أسير إبداعاته وأفكاره وآلهته وقوانينه التي صنعها هو ذاته.في ” لماذا أكلت أبي ؟ .. ” كان العم فانيا ، القرد الإنساني ، قد حذر مع ذلك أخاه المبتكر : ” لا تنس أبدا ما يلي : الحجر المنحوث من أجل الإنسان ، وليس الإنسان من أجل الحجر المنحوث ! ” .

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

3 responses to “أصول الثقافة

  1. عرض لطيفة، شكرا لك …. ^ _ ^ …

  2. العفو

  3. وماذا عن البشر اللي عاشو في الغرب والشرق ؟

أضف تعليقك هنا