المثقفون ومسارات الردة

ترى ما الذي أصبح عليه حال الماركسيين اليوم ؟ .. بعضهم انخرط في ” ماركسية بيان الموجودات ” ، والآخرون تخلوا بعد تمعن عن المرجعية الماركسية واتجهوا صوب مبادرات فكرية مغايرة . وبمكر تاريخي ؛ فإن الجامعيين الأنجلوسكسونيين هم الذين أصبحوا اليوم يوفرون للماركسية أكثر الآفاق التجديدية أصالة .
بقلم : جان بودوان*
عــــن : مجلة العلوم الإنسانية رقم : 63 يوليوز 1996
المثقفون ومسارات الردة

في كتابه التقليدي ” حول الماركسية الغربية ” المنشور سنة 1977 ربط بيرُي أندرسون النجاح السياسي والمادي للماركسية بشرطين اثنين : من جهة بوجود حزب شيوعي قوي وقادر في نفس الآن على تنظيم غالبية أفراد الطبقة العمالية وتشكيل قطب بديل . ومن جهة أخرى بوجود أنتلجنسيا كثيرة العدد وديناميكية ، مهتمة بازدهار ثقافة ماركسية حية وخلاقة . وهذان الشرطان لم يجتمعا على مستوى تاريخ البلدان الأوربية إلا في ثلاثة بلدان هي : ألمانيا خلال العشرينيات ، إيطاليا وفرنسا ، حيث تمكنت الأحزاب الشيوعية ووجه المثقف اليساري من الاحتلال الدائم لمكانة مركزية في الحياة السياسية . لكن كان على الماركسية في هذه البلدان ذاتها أن تعاني من فشل المحاولات الثورية للسنوات ما بين 1920-1917 ، وأن تعرف ” طلاقا بنيويا في ما بين النظرية والممارسة ” .
وهكذا فإن علمنة هذه عاناحظ تجدد وانبعاث لهذا الفكـــر تلك البلدان التي كانت صية تقليديا على الفكر الماركسي بادئ ذي بدء في طموحاتها الأولى ؛اركسية أيضا هو قدرتها التنبئية ؛اعتراف بمعنى ما بنقصان النظرية مع إيلاء انتباه جديد كليا للقارات الفكرية الأخرى . إن العقيدة الماركسية حتى ولو تم الاحتفاظ بها ، لم تعد النجم اللامع الوحيد في سماء الإيديولوجيات .

الالتفاف المدروس على المرجعية الماركسية

إن المفكرين والتيارات المتمركسة عندما لا يختارون ماركسية بيان الموجودات هاته فإنهم يهجرونها لموقف النسيان أو التهجين . ومن وجهة النظر هاته فإن ثلاثة أنواع من المبادرات الفكرية تستحق الذكر ، وهي تمثل انعطافا إن لم نقل قطيعة هامة مع الوصية النظرية للماركسية ، ولكنه الانعطاف أو القطيعة التي توفر أيضا مخرجا معقولا لكل أولئك الذين ” صدقوا ” وآمنوا بصلاحية هذا الفكر الداخلية : (1 النظرية الاجتماعية للإيطالي سلفاتور فيكا المستلهمة من الفيلسوف الأمريكي جون راولس ؛ (2 نظرية الفعل التواصلي لدى يورغن هابرماس ؛ (3 وأخيرا سوسيولوجيا بيير بورديو التي ولو أنها انتشرت في إطار سوسيولوجية أجنبية عن التكهن الماركسي ، فإنها تقدم على الأقل تشابهات وتماثلات هامة مع المنظور الاجتماعي لدى ماركس .
الغواية الراولسية :
يعتبر سلفاتور فيكا عموما الناطق الرئيسي في ما وراء الألب باسم فكرة جون راولس ؛ ففي كتاب صدر سنة 1987 بعنوان : ” برنامج ماركس الاقتصادي ” انتقد عقيدة ماركس لأنها لا تساعد من وجهة نظره على التفكير الصحيح في إحراجات ( مشاكل منطقية غير قابلة للحل ) حداثتنا الليبرالية . ولقد ترك المجال في كتبه الأخيرة للاعتقاد بأن الفلسفة السياسية لمؤلف ” نظرية العدالة ” هي الأفضل موقعا للحلول محل ماركسية لا وارث لها ، ولإصلاح التفكير الجماعي منذ الآن في مستقبل المجتمعات الإنسانية .
وبشكل عام فإن فكر جون راولس يوفر منفعة لا تنكر للمثقفين الماركسيين الذي هم في حالة انقطاع معلن عنها ، والذين هم على شاكلة س. فيكا في بحث دائب عن آفاق جديدة . إنه يبرهن على أن التخلي عن الماركسية التي هي في نفس الآن شبيهة بيوتوبيا علمانية وبأداة للتحليل لا يستلزم أبدا الانخراط بلا تحفظ في نظرة فردانية للمجتمع ؛ إنه يمكن من تعميق تبرير الديمقراطية ، ودعم الحريات السياسية ونوابض الاقتصاد الليبرالي مع العمل في نفس الآن على اقتراح مبادئ للعدالة الاجتماعية .
إعادة البناء الهابرماسية :
بكل تأكيد يمثل عمل هابرماس غير المكتمل ” خروجا ” من الأورثودوكسيا التي كثر تبجيلها وتعظيمها في نظر مستعمل قديم للمذهب الماركســـي .
لقد عمق يورغن هابرماس حركة التباعد التي مارستها مدرسة فرانكفورت قبلا حيال النظرية الماركسية . ولقد عبر في كتابه ” ما بعد ماركس ” عن إرادته في تحرير أفكاره الخاصة من الإطارات الأساسية للأورثودوكسيا الماركسية وتجديد الاتصال بتقليد ألماني قديم يحدد للفلسفة مهمة توحيد مساهمات المباحث الأكثر تنوعا بداخل بناء جامع ، فما هي بالضبط المكانة التي احتفظت بها هذه الماركسية المطهرة سابقا في كنف هذه الكوكبة الفكرية الجديدة ؟ .. فإذا كانت الماركسية لا تزال مطلوبة بالنسبة ليورغن هابرماس من أجل المساهمة في فهم الشأن المجتمعي وتوضيح تناقضاته ، فلم يعد من شأنها بالمقابل أمر إصدار الوصايا و لا حتى ممارسة النبوءة . إن عمل العلمنة يطرح على الأقل السؤال التالي : هل من الممكن ، مع الحفاظ تماما في الذهن على ضرورة نقد للهيمنة ، تصور نظرية للانعتاق لم تعد تمر أبدا عبر يوتوبيا ثورية ؟ .. نعم ، يجيب هابرماس ، لكن بشرط جمع النموذج الكلاسيكي للهيمنة بالنموذج الأوسع للتواصل . هنا تكمن المساهمة الأكثر خصوبة بكل تأكيد لإعادة البناء الهابرماسية للمادية الديالكتيكية ، والتي عرضت نتائجها في ” نظرية الفعل التواصلي ” .
منذ أن فقدت التقاليد والعادات والقيم سلطتها المنظمة والضابطة وتمددت وتتمدد دائما إلى الأمام أكثر ضروب المنطق المحاذية لـ ” العالم المدار ” و ” العالم التجاري ” و” استعمار بنيات العالم المعيش ” ، فإن الحفاظ على / وتوسع ” فضاءات التفاهم المشترك ” تمثل في أعين هابرماس العقبة الرئيسية في وجه خيبة الأمل . لا شيء أكثر استعجالا بالخصوص من الحفاظ على بنيات الحياة الاجتماعية ، والأسرة في المقام الأول لأنها تتعارض بشكل أكثر فعالية مع ضروب المنطق المدمجة لاقتصاد السوق والإدارة النظامية . لقد قادت هذه المهمة هابرماس إلى إعادة الإعلاء من شأن الديمقراطية على حساب الليبرالية ، وهو يعتبر إقامة دولة الحق المحترمة للحريات والمراهنة في النهاية على إعادة بناء ” فضاء عمومي ” يساهم المواطنون في كنفه طبقا لتعاليم الأخلاق التواصلية في إنتاج واتخاذ القرارات العمومية مكسبا حاسما .
سوسيولوجيا بيير بورديوالنقدية :
لقد رفض مؤلف ” مهنة السوسيولوجي ” دائما أن يعلن ولاءه لفكر ماركس أو لفكر أتباعه وخلفائه ، معترفا بأنه لا يعدم حججا من أجل إسقاط الصلاحية عن هذا الانتماء .
– إذا ما ألقينا أولا نظرة على جينيالوجيا أعماله فإننا سنقف مباشرة على أنها أنجزت خارج السبل التي وضعت معالمها من قبل التأمل الماركسي وعلى قاعدة السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية . و بورديو يطالب صراحة بإدراج فكره داخل التقليد السوسيولوجي الفرنسي ( سوسيولوجيا إميل دوركهايم ) .
– و لا يمكن اعتبار رفضه توريط البحث السوسيولوجي في المقام الأول في التزام من طبيعة سياسية ، أو أيضا في عقائد الخلاص ، فإن سوء التفاهم الذي حصل مباشرة في ما بين مدرسة ب. بورديو ومثقفي PCF يعتبر سوء تفاهم يمكن على الخصوص من فهم السبب وراء عدم تأثر سوسيولوجيا الهيمنة الرمزية أبدا من جراء الأزمة التي عصفت بالماركسية الغربية . وإذا كان التقليد السوسيولوجي الذي أعاد ب. بورديو تناوله وإغناءه تقليدا يمكن من البقاء على قيد الحياة بعد تفتت النبوية الثورية ، أفليس ذلك أفضل دليل على أن هذا التقليد ينهض ويزدهر على قاعدة ركيزة فكرية غريبة تماما عن الأرضية الماركسية ؟ ..
– وإذا كان ممكنا بشكل مؤكد أن نكتشف بداخل وسط بورديو ( مدرسة بورديو ) جيلا عايش المحاولات الثورية للعشريات 1970-1960 ، فإن هذا الوسط ذاته جمع أيضا أجيالا لم تعرف هذه الفترة ، أجيالا شغفت بهذه ” الصرامة المزعجة ” التي دعتهم إليها مدرسة بورديو والتي سيكون مفاجئا بدون شك أن تماثل بجماعات المحرضين الماركسيين اللينينيين ! وما يتبقى بعد ذلك هو أن هنالك تقاربا قويا بشكل خاص في ما بين هذين المذهبين .
– عنصر التواطؤ ( الاشتراك ) الأول في ما بين سوسيولوجية بورديو والفكر الماركسي يتمثل في أن كلا منهما انشغل بالتفكير في النظام الاجتماعي عبر نموذج الهيمنة ، وأنه ليس من الممكن الوصول إلى استيعاب واضح للفضاء الاجتماعي بدون توضيح التناقضات الطبقية التي تشكل القاطرة الكبرى للحياة الاجتماعية : ويجدر بنا مع ذلك أن نضيف أن سوسيولوجيا بورديو تشكلت أيضا ضدا على ” تحريفية ” معينة للتقليد الماركسي وهي تلح على أن تصطنع طريقة جد مدققة لوصف الميكانيزمات المعاصرة للهيمنة الاجتماعية . إن بورديو يعمل على أن ينجز لنظرية الهيمنة ضربا من الثورة الكوبرنيكية ، محولا النظر من أماكن إنتاجها المفترضة نحو ميكانيزمات إعادة إنتاجها ، وقد توصل مؤخرا بهذا (التطبع )على الخصوص إلى صياغة مفهوم جديد هو مفهوم التطبع Habitus . وبوصف هذا المفهوم محددا باعتباره ” نظاما للإجراءات المستدمجة ” أو أيضا ” قالبا مُبَنْيِناً للإدراكات والسلوكيات ” ، فإن التطبع يوجه كل فرد بداخل الفضاء الاجتماعي محددا له وبدون علم من فهمه الخاص اختياراته وأذواقه وسلوكاته ، ومن ثم لا حاجة ” لأجهزة الدولة الإيديولوجية ” من أجل إعادة تفعيل عنف رمزي ينتج ” بشكل طبيعي ” عبر توسط أزراره ومفاتيحه الثقافية التي هي أشكال التطبع ! .
– إن نقد الديموقراطيات الحديثة الذي تتضمنه سوسيولوجيا بورديو يشكل تماثلا ثانيا مع التحليل الماركسي ؛ و لا شيء يوضح بشكل أفضل التصور التحقيري بشكل لا يقاوم للديمقراطية لدى ب. بورديو غير الأجزاء الكبيرة من عمله والمخصصة للتربية والتعليم . إن المدرسة بشكل أكيد هي المؤسسة التي يتم اللجوء إليها بشكل منتظم إلى جانب الاقتراع العام من أجل تأكيد الطموح المحرر أو التحريري لدى الديمقراطية . بيد أن كل تأملات بورديو حول المدرسة تستهدف تفكيك أسطورة الاستحقاق التي تغذي الصناعة الجمهورية للصورة منذ جول فيري . إن ما يعتبر حدثا هو أنه في العصر الحالي الموسوم بسقوط البدائل الثورية تعتبر سوسيولوجيا بورديو على الأرجح المؤسسة الفكرية الوحيدة ذات بعض الأهمية التي لا توافق على القبول بإيجابية ما للمبدأ الديمقراطي ، وبهذا الخصوص فهي تذهب إلى ما وراء الطبعات الأكثر أورثودوكسية في الماركسية الجديدة والمعاصرة .
– وإذا ما اهتم بفصل السوسيولوجيا التي تشتغل في مجال ” وصف ” الفلسفة أو السياسة التي تبذل قصارى جهودها من أجل ” تقديم الوصفات ” فهو لا يفوته أن ” وصف ” العلاقات الاجتماعية هو شيء آخر غير كونه مجرد تقرير علمي ، ” ستكون العلاقات الاجتماعية أقل تعاسة إذا ما تحكم الناس على الأقل في الميكانيزمات التي تحكم عليهم بالمساهمة في بؤسهم الخاص ” . وهكذا ، فإن السوسيولوجيا يمكن أن تمارس عملا نافعا ومجديا من خلال إخبار أفراد المجتمع الأكثر خصاصة بنوابض الهيمنة الممارسة عليهم ، ومساعدتهم بذلك على إمساك زمام مصائرهم بأيديهم .

تجدد الماركسية الأنجلوفونية

علينا أن نعترف ولو أن إنجلترا هي الأرض التي شهدت ميلاد الاقتصاد السياسي الماركسي بأن ما لم يكن منتظرا هو أن تتجدد الماركسية انطلاقا من جامعة أوكسفورد أو كمبريدج ، هارفارد أو ستانفورد إن لم تشكل توسعا معتدلا للماركسية الغربية . وبالفعل ، فحتى الثمانينيات برز الفكر الماركسي بداخل المشهد الفكري البريطاني كثؤلل صغير معلق بالإرادة الطيبة لدى الأكاديميات المهيمنة . وقد وقف تأثيره في كنف الجامعة عند حدود ” مساحات محدودة ” : التاريخ المعاصر على سبيل المثال ؛ حيث مارست أعمال م. دوب و إ. هوبسباون أو ت. كليف وحققت إشعاعا حقيقيا .
وفي الوقت ذاته الذي مارست فيه إغراء وجاذبية كبيرين على الأوساط الفكرية القارية ، من كان يستطيع أن يتصور أن هذه الماركسية المجدة والوحيدة ستستبق بالفعل المصير اللاحق للماركسية الغربية وستملي عليها حتى الشروط القبلية لبقائها على قيد الحياة ! .
وانطلاقا من الثمانينيات بالمقابل التقت الماركسية الأنجلوفونية هذا النزوع الثقيل للمشهد البريطاني الذي شكلته الفلسفة التحليلية بمزجها خلسة للانشغالات والمبادئ والاحتياطات الحذرة : ونتجت عن ذلك ماركسية متثاقفة بشكل كامل ؛ ماركسية هي في نفس الآن ” تحليلية ” ، ” فردانية ” و ” أخلاقية ” .
ماركسية تحليلية :
يعلن على العموم كتاب ج.أ. كوهن ” نظرية التاريخ لدى كارل ماركس ” الذي ظهر سنة 1978 حفل الخطوبة الغريب نوعا ما بين الماركسية الأنجلو سكسونية والفلسفة التحليلية . و ج. أ كوهن الذي كان تلميذا لجيرار ريل ؛ المدير النافذ التأثير في مجلة ” مايند = العقل ” ينبه في مستهل الكتاب إلى أنه فرض على ذاته ” إكراهين اثنين : نصوص ماركس من جهة ، ومعايير الوضوح والصرامة التي تسم فلسفة القرن العشرين التحليلية من جهة أخرى ” . وقد شكل هذا المسعى مدرسة وفتح آفاق التطور الجديدة التي ستمكن من توطيد فرع ديناميكي وأصيل للماركسية الغربية حول مفكرين كجون إيلستر ، آدم بريفورسكي ، جون رومر ، ب. فان بارييس أو إ.أ. ورايت .
وتطبق ” الماركسية التحليلية ” على التقليد الفكري المنحدر من أعمال ماركس المناهج والقواعد المعروفة بأنها في مبدأ كل بحث ذا سمة علمية . إن الفكر الماركسي لم يعد يعتبر وبشكل يحظى بالأسبقية ك : ” تصور شمولي للعالم ” ، وإنما كمجموع محدود من المشاهد النظرية قابلة للعزل والتحليل وقابلة للرفض أيضا احتمالا . أعمال ماركس مفككة هنا بحرص شديد إلى تعدد من القضايا من بينها قضايا هي من العمومية المفرطة حتى أنها لا تقبل أن تحاكم تجريبيا ، لكن بعضها الآخر واضح ومحدد بما يكفي بشكل يمكن من تعريضه لـ ” مبدأ التحقق ” . وهذا المنهج التحليلي المتمثل في مجابهة القضايا المفردة للنظرية الماركسية بتطور المجتمعات هو مشغل بشكل خاص في مجال النظرية الاقتصادية . وهكذا لا يتردد ببريطانيا العظمى ج.أ. رومر أو أيضا ب. برينير في وضع الأصناف المركزية للاقتصاد السياسي الماركسي موضع تساؤل : القيمة ، الاستغلال ، فائض القيمة ، بينما تناول إ.أ. ورايت مفهوم ” الطبقات ” الاجتماعية العريق على ضوء التحولات المعاصرة .
ولو أن الماركسية التحليلية لم تعلن عن ذلك كمرجع فإن الموقف ” النقدي النزعة ” وليس الدوغماطيقي الذي تتبناه الماركسية الأنجلوفونية يحين على طريقته المقاربة الجديدة التي جربها كارل بوبر سنة 1942 في كتابه الكلاسيكي ” المجــــتمع المفتوح وأعداؤه ” .
لقد كان الإبستمولوجي الفييني ( نسبة لمدينة فيينا ) قد قرر حينها أن يحمل على محمل الجد الزعم العلمي للفكر الماركسي ـ الذي ميزه بدقة عن ذريته ” الماركسية ” ـ وأن يعتبر أطروحاته الأساسية عبارة عن قضايا قابلة للتكذيب منطقيا وتجريبيا ومن ثم توقفت الماركسية عن أن تكون غرابة فكرية لكي تضحي مجرد بناء فرضي استنتاجي قابل للمحاكمة بهذه الصفة بالإجراءات المستخدمة في كنف مجتمع العلماء .
إن تطبيق معالجة ذات خصائص علمية على الماركسية يطرح مشكلة كبرى على كل أولئك الذين لم يفقدوا الأمل رغم كل شيء من الأدوات الفكرية الموصى بها من طرف مؤلف ” رأس المال ” . فهل يمكن احتمالا أن تقود مستخدميها إلى هجر عقيدة أضحت متقادمة ؟ .. تلك على سبيل المثال هي قناعة كارل بوبر . وإذا ما توقفنا عن اعتبار الفكر الماركسي كما لو كان فكرا ” صادقا ” بالضرورة ، كشكل من أشكال قبلي المعرفة ، حتى لا يتم الاحتفاظ منه إلا بمجموعة من القضايا القابلة للتحقق والتكذيب تجريبيا ، فإن ماركسية فاضلة وصادقة ستقبل إذا اقتضى الحال ذلك أن يتم إبطالها . إن تقريرا نقديا ومخيبا لآمال النظرية الماركسية هو تقرير قاتل لها بالقوة .
والماركسية التحليلية تقبل هذا الاحتمال ؛ إنها تقبل وجوب أن يتضمن استعمال صارم للفكر الماركسي وبشكل فبلي فرضية اختفائه الخاص بوصفه بنية لفهم العالم الاجتماعي ، وقد تم الدفاع عن هذا الرأي بصلابة من طرف جون إيلستر الذي يعتقد بوجوب أن يظل تقييم المفاهيم الماركسية مستقلا بشكل صارم عن أي اعتبار إيديولوجي .
ماركسية فردانية:
المساهمة الثانية للماركسية الأنجلو سكسونية تمثلت في جمع التحليل الماركسي مع ما يعتبر مبدئيا نقيضاله : أي الفردانية الميثودولوجية ومصادرة الاختيار العقلاني .
فإذا كانت الماركسية تقدم نظرية للتاريخ تحقق الرضا غالبا ، فإنها تصبح باطلة بشكل غريب عندما يتعلق الأمر بالتنظير للأفراد الذين يصنعون هذا التاريخ . تلك كانت القناعة الأمثل رسوخا لدى الماركسية التحليلية : فالنزعة الفردانية الميثودولوجية ، وبشكل مفرد نموذج الاختيار العقلاني ، إن لم تكن نظرية الألعاب ، تمكن بشكل جد نافع من تصحيح وتقويم ” السببيات الخطية ” التي وصمت الماركسية الكلاسيكية وعاقتها عن التفكير أيضا في اللعب الحر لقوة إرادة الفعل الفردية .

إن الفردانية الميثودولوجية تمكن على الخصوص من إعادة تأسيس نظرية فعل الطبقة وصراع الطبقات . وقد أشار كلود أوف خلال شرحه لأعمال آدم بريفورسكي على سبيل المثال إلى أن العبد لم يكن في ظل بنية قامعة جدا كبنية العبودية ” مسحوقا ” كليا ، بل كان يتوفر على عديد من ” الاستراتيجيات ” : استراتيجية المجابهة ( سبارتاكوس ) ؛ الاستراتيجية الإصلاحية ( المطالبة بتحسين ظروف العيش ) ؛ استراتيجية الخروج من المجتمع ( خرجة هيرشمان ) ؛ الاستراتيجية الفردانية ( الترقي إلى عبد ـ رئيس ) . فحيث تعترف الماركسية المبتذلة ببديل وحيد ؛ الانسحاق أو الثورة ، فإن الماركسية الفردانية تحصي الاختيارات الأكثر تنوعا . إننا نحزر بسهولة أن ماركسية الاختيار العقلاني هاته تسحب كل عواقب هذا الاختيار الميثودولوجي على التطورات المعاصرة للمجتمعات الرأسمالية ، وتعيد النظر خاصة في أطروحة السمة التي لا محيد عنها للثورة البروليتارية . إن الماركسية الكلاسيكية تصف سلسلة من السيرورات الموضوعية المؤدية ” بالعمال ” بالضرورة إلى الاتحاد من أجل ” قلب ” النظام الرأسمالي وإقامة نظام اجتماعي يخدم مصالحهم ، أما الماركسية الأنجلوفونية فتحاول على النقيض من ذلك أن تفسر لماذا لم تتحقق أية ثورة بالبلدان الرأسمالية المتقدمـــة .
ماركسية أخلاقية :
وبذلك فإن مختلف تنويعات الماركسية التحليلية توافقت بهذا الشكل من أجل التخلي عن الخلط الذي أقامه هيجل في ما بين عالم ” الوقائع ” وعالم ” القيم ” ، والشك في إلحاق مفهوم الأخلاقية بمفهوم صراع الطبقات المجرى من قل ماركس . ونظرا لغياب تعيين أساس أخلاقي للماركسية فإنه يجمل الفصل بشكل أفضل في ما بين مجال التحليلات العلمية ومجال التقييمات الأخلاقية وربما أيضا إقرار الأطروحة الكانطية التي توجد حسبها مجموعة من الإلزامات العامة هي مستقلة عن التجربة المحض تاريخية والتي تفرض ذاتها بشكل إلزامي على الذوات العاقلة المحررة من كل احتمالية مادية أو اجتماعية .
إن إعادة تقييم الأخلاق لدى بعض ممثلي الماركسية التحليلية تستلزم عواقب أكثر جذرية ؛ فبالنسبة لهم توجد نواة من المعايير الأخلاقية لا تدين في وجودها و لا في أصلها في شيء للتفكير الماركسي والتي يجب أن تحمل على محمل الجد إذا كنا نريد بناء مجتمع عادل . إن راولس هنا ليس بعيدا ، ونحن نفهم أن عددا معينا من ” الماركسيين التحليليين ” رضخوا هم أنفسهم أيضا للمحاولة الراولسية ، مثل ك.ج. رومر على سبيل المثال الذي تصور توافقا في ما بين نظرية ماركس الاجتماعية وفلسفة راولس الأخلاقية . ” لقد تغير التوزيع الجغرافي للأعمال النظرية حول الماركسية بعمق خلال العشرية الأخيرة ، وحاليا يبدو أن المراكز الأساسية للإنتاج الفكري تجد ذاتها في العالم الأنجلوفوني بدل أن تجدها في أوربا الجرمانية أو الرومانية ، كما كان الحال على التوالي خلال ما بين الحربين أو فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ” . وهذه المعاينة التي أجراها بيري أندرسون سنة 1983 لا زالت تحتفظ بكامل سدادها ووجاهتها . إن غالبية عائلات التفكير الماركسي انطفأت الواحدة تلو الأخرى ، بينما كمنت نيران جديدة في ظل الفلسفة الأنجلو سكسونية ، كما أنها تقوت بخصوص بعض القضايا بفعل تطوير البحوث ذات الاستلهام الماركسي بالولايات المتحدة سواء في المجال الاقتصادي للعلاقات الدولية ( باران وسويزي ـ والرشتاين ) أو في قطاع تحليل السياسات العمومية ( أوكونور ) .
وتبرهن هذه التطورات الحديثة على أن الفكر الماركسي لا يمكن أن يظل على قيد الحياة إلا بفعل علمنة جذرية لمحتوياته ، وفي هذه الحالة فليس هناك فقط فصل للنظرية عن التطبيق ، وللفهم والنبوءة ، بل هناك بالإضافة إلى ذلك إدماج للمفاهيم الأكثر ” قابلية لتمثيل ” النظرية الماركسية في الإطارات المعدة سلفا لأنظمة التفكير اللاماركسية : الفلسفة التحليلية ؛ الفردانية الميثودولوجية ؛ الأخلاق الديمقراطية المعاصرة . ونستطيع مع ذلك وبشكل معقول أن نتساءل عن ما سيتبقى من خصوصية الماركسية إذا ما ظلت هذه الأخيرة دائما أكثر تبعية وتوقفا على أعشاشها الإيكولوجية الجديدة .

أضف تعليقك هنا