Category Archives: 1. الشروط التاريخية والاقتصادية – الاجتماعية

الشروط التاريخية والاقتصادية – الاجتماعية

موضوع هذا الفصل هو تبيان أن العلم ليس نشاطا مورس من طرف الإنسان منذ الأزل ودائما بنفس الصيغ ، أو أنه ولد ذات يوم مكتملا في عقل عالم ما ، وإنما هو [ أي العلم ] محدد عن طريق شروط تاريخية اجتماعية ـ اقتصادية ـ تكنولوجية ،وإيديولوجية ونفسية.

1) الشروط التاريخية والاقتصادية ـ الاجتماعية:

إن العلم إنجاز اجتماعي : فمكان ولادته ووجوده ليس عالما واسعا من الأفكار أو ” الحقائق العلمية ” ، وإنما هو المجتمع ذاته الذي يشكل العالم بالنسبة إليه ” منتجا ” للأفكار والنظريات والتجارب. إن هذا الإنتاج له بدون شك سمة خاصة ( فالعلم لا ينتج البضائع أو الآلات بشكل مباشر ) ، ولكنه يظل مع ذلك خاضعا لنفس الشروط الاجتماعية التي تخضع لها الإنتاجات الأخرى. ولقد سبق لنا أن رسمنا الخطوط الكبرى للفكرة القائلة إن علوم الطبيعة التي يُختزل إليها العلم غالبا ، ولدت مع الحدث المتعلق بميلاد النسق التجاري والرأسمالي. إن البورجوازية الصاعدة ، ثم المتحكمة في السلطة ، في فترة ما قبل الرأسمالية وفي نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه ، كانت في حاجة لنسق إنتاجي يمكنها من الاستغلال المطرد والمتنامي للطبيعة ، ويفترض هذا النسق الإنتاجي وجود عامل من نوع جديد ضمن العمال الأحرار ( بمعنى أكثر تحررا من الآخرين ) هو العالم الذي لا يهتم ، باستثناء الآخرين ، إلا باستخراج القوانين العامة للطبيعة ، أما العمل المنتج بشكل خاص ( إنتاج الخيرات الاستهلاكية ـ الآلات . . . إلخ ) فكان موكولا في البداية إلى المصانع ، ثم أوكل إلى عامل تحول بسرعة إلى عامل ضروري مع تطور الإنتاج ، هو المهندس الذي لا تتمثل مهمته إلا في استخدام اكتشافات العالم النظرية في تطبيقات خاصة.

إن الوضعية الخاصة التي منحت لرجل العلم في ظل النظام الرأسمالي تسمح لنا أن نفهم كيف أن العالم يمكن أن يبدو في نفس الآن كشخص منفصل تماما أو كليا عن المجتمع ، أي عن الإنتاج ( ما دام لا ينتج بشكل مباشر ) ، من جهة ، ويبدو من جهة أخرى بالفعل كأحد المساهمين في عملية الإنتاج. من هذه الوضعية الغامضة ( المفارقة ) يتولد مفهومان للعلم كلاهما خاطئ : أحدهما يدافع عن أطروحة تقول أن للعلم نموه الخاص والمستقل عن الحياة الاجتماعية ( وتلك أطروحة وجهة النظر الداخلية لدى كويري خاصة ) ، أما الأخرى ، فتدعي على العكس من ذلك أن العلم لا يوجد إلا من أجل التطبيقات التقنية التي يستطيع إحداثها ، ويجهل بالتالي تبعا لذلك كل مجانية؛ إحدى هاتين الأطروحتين تجعل من العالم قرصا نيرا تائها بين السحب ، أما الأخرى فتجعل منه عميلا مباشرا للإنتاج، مسؤولا بالتالي وعلى أعلى المستويات عن المضار التي يمكن أن يقترفها النظام الاجتماعي الذي يعيش بين ظهرانيه. إن النشاط العلمي لا يقبل أن يعرف هكذا من طرف مثالية موجزة ومجتزئة، و لا من طرف ماركسية ميكانيكية؛ ففي فرنسا على سبيل المثال توجد منظمات للبحث الخالص ، وهي متبناة من قبل شركات خاصة؛ فالحكمة الكبرى لدى الرأسمالية في ميدان العلم يمكن أن تقود نحو المثال القديم القائل ” من الممكن أن يكون نافعا على الدوام “, نستطيع من جهة أخرى ملاحظة أن رأسمالية المركز ( رأسمالية الدولة ) ، وهي الوجه الحالي للرأسمالية ، تنحو أكثر فأكثر نحو فصل المهام ، وتجسيد القسمة بين العمل الفكري العلمي والعمل الفكري أو اليدوي المنتج بداخل المؤسسات : فالدولة هي التي توفر البحث الأساسي عبر مؤسسات مثل المركز الوطني للبحث العلمي CNRS من جهة ، والشركات الخاصة هي التي تقتبس من اكتشافات العلم التقنيات الجديدة لمضاعفة أرباحها من جهة أخرى.

إن الاستقلال النسبي للعلم ، أو بمعنى آخر ، إن توقفه النسبي على المجتمع ، وهو ما يفسر موضوعية خلود نتائجه ( ليس هنالك بصريح العبارة علم رأسمالي أو علم بروليتاري : فالإلكترونيك يمارس في هيوستن وباكو ، والفيزياء النووية تمارس في أورساي وبكين ) هو في نفس الآن الثمن المدفوع من قبل الرأسمالية لتسريع عملية إنتاجيتها ( يمكن أن يكون العلم مضرا لنفسه وخادما لقوى مضادة له : فالبيولوجيا مثلا يمكن أن تنبه إلى مضار مواد مكونة لأدوية معينة وتجعلها بذلك مواد غير قابلة للبيع ) ، والوسيلة التي تمكنها من نشر وتوسيع سلطتها ومصالحها ( فاشتقاق تقنية معينة من نظرية علمية موجودة سابقا عن طريق اختصاصيين هو أقل كلفة من إنتاج المعارف النظرية الضرورية في كل مرة يكون فيها من الضروري إبداع تقنية جديدة ) .

في النصين التاليين سنرى كيف أن العلم ولد من جهة من حاجات الإنتاج الصناعي المتنامية، وكيف يتم إدماج العلم في سيرورة الإنتاج الرأسمالي من جهة أخرى. وتأسيسا على ما سبق ، سيفهم أننا نبدي تحفظا اتجاه النص الثاني بخصوص مفهوم العلم كقوى منتجة مباشرة ، ولو استند هذا المفهوم على ذكر الكتابات الأولى لماركس ، وعلى إيراد فقرة من ” الرأسمال ” ( النص الأخير ) المؤول بتسرع نسبي.

1) انطلاق العلم مواز لصعود البورجوازية

” موازاة لصعود البورجوازية نستنتج الانطلاقة الكبرى للعلم ، وقد كانت العلوم مثل علم الفلك والميكانيكا والفيزياء والتشريح والفيزيولوجيا قد نمت في ذلك الوقت؛ فلقد كانت البورجوازية في حاجة، لأغراض تطوير الإنتاج الصناعي ،  إلى علم يدرس الخصائص الفيزيائية للأشياء الطبيعية وأشكال الفعل لدى قوى الطبيعة. وحتى ذلك الحين لم يكن العلم إلا الخادم الأمين للكنيسة التي لم تسمح له أبدا بتجاوز الحدود الموضوعة من قبل الإيمان ؛ لقد كان العلم حينها أي شيء ما عدا كونه علما . ونتيجة لكون البورجوازية لا تستطيع فعل أي شيء بدون الاعتماد على العلم ، فإنها ستعلن العصيان في وجه الكنيسة ، وستلتحق بذلك بحركة الثورة”.

فريديريك إنجلز

إنجلز : المادية التاريخية

في : دراسات فلسفية

المطبوعات الاجتماعية 1968 – ص :  124

2) العلم في ظل النظام الرأسمالي

” لأن المعرفة العلمية ناجمة عن ممارسة تحويل الطبيعة ، ولأنها تتحول بدورها إلى عامل في عملية تحويل الطبيعة الإنسانية ، فإن تطورها يتم بانسجام مع التغيرات الحاصلة في نمط الإنتاج؛ أولا في الصناعة التقليدية ، ثم في الصناعة . عندما تتحول الأشكال الاجتماعية ما قبل الرأسمالية إلى بنيات رأسمالية ، فإن المعرفة الأمبريقية الشعبية تغدو متحولة في الطور الأول من العلم المعاصر. إن العلم، كالرأسمالية، يشكلان قوة ” محضرة ” بداخل حدود معينة. ولإعطاء مثالين ؛ فإن الثورة الجاليلية في ميدان الكوسمولوجيا دمرت نموذج بطليموس القائل بعالم ممركز حول الأرض، ومأمور بشكل كلي من قبل الإله. وفيما بعد كان على داروين أن يجعل من الإله عاملا هامشيا بخصوص خلق العالم والإنسانية ، فبدا العلم هكذا كمعرفة نقدية ومحررة للإنسانية من جبروت الخرافة التي بوجودها في نسق الفكر الديني ، شكلت المفتاح والدعامة الإيديولوجية للنظام الاجتماعي السابق. إن نمط الإنتاج المؤسس على الرأسمالية يستلزم تجديدا مستمرا على جميع أصعدة الحياة: كخلق موضوعات جديدة وأفكار جديدة وتقنيات جديدة وأشكال اجتماعية جديدة. إنه يتطلب كما يقول ماركس: ” تطور علوم الطبيعة إلى أقصى درجاتها “.

ويستمر ماركس موضحا كيف تصبح شروط العلم هاته قوت منتجة مباشرة : ” إن الطبيعة لا تنتج لا الآلات و لا القاطرات و لا السكك الحديدية و لا التلغراف ولا الجرارات . . .إلخ، إنها منتجات الصناعة الإنسانية من مواد طبيعية محولة إلى أدوات ، من إرادة إنسانية مفروضة على الطبيعة ، أو من المساهمة الإنسانية داخل الطبيعة، إنها أدوات العقل الإنساني مبتكرة بفضل يد الإنسان وقدرة الموضعة في المعرفة الإنسانية. إن تطور الرأسمال الثابت يشير إلى أي مدى تحولت المعرفة الاجتماعية إلى قوة منتجة مباشرة ، وبالتالي ، إلى أي درجة تم إخضاع شروط مسار الحياة الاجتماعية ذاتها لرقابة الذكاء العام ، وكيف تم تحويلها بشكل موافق لها” .

إن الرأسمالية تحمل في ذاتها ، وفي نفس الآن ، تناقضا ” يحد من مسارها المحضر ” ، والذي بتحديده ذاك يخلق قوة لا تقاوم تعمل على تدمير ذاتها،  هذا التناقض هو بطبيعة الحال تناقض العمل والرأسمال.

لكن ، ما شأن العلم هنا ؟ .. هل يظل بداخل التقليد الجاليلي – الدارويني مستمرا كقوة محررة ، أم يساهم في هذا التناقض العام ؟ .. إن ماركس واضح بهذا الخصوص ؛ ففي إطار الرأسمالية تفقد الطبيعة طبيعتها ، والإنسانية إنسانيتها، ويساهم العلم بشكل كلي في هاتين السيرورتين.

وبالفعل ، فالطبيعة تتحول إلى مجرد شيء بالنسبة للإنسان، لكنه شيء نافع، ولم يعد يعترف بها كقوة ، وتصبح للذكاء النظري لقوانين الطبيعة كل خصائص الحيلة التي تستهدف إخضاع الطبيعة للحاجات الإنسانية ، سواء باعتبارها حاجات استهلاكية أم باعتبارها وسائل للإنتاج.

وكما يتعاظم المجد المادي مع نمط الإنتاج الرأسمالي ، يجد العامل ذاته مفرغا من القيمة بشكل متعاظم ، مستلبا مما ينتجه ومن ذاته ، ومن كينونته الخلاقة : ” إن تحقير عالم الإنسان ، كتب ماركس ، هو بشكل مباشر متناسب مع القيمة المتنامية لعالم الأشياء “. إن علاقة العامل بالإنتاج تنتج في نفس الآن السلطة الهائلة والغنى للعمل ، والوهن والعوز بالنسبة للعامل ، لأن المنتجات التي ينتجها ليست ملكا له ، إذ من الممكن أن يبني شقة فارهة في الوقت الذي يعاني فيه هو ذاته من مسكنه الحقير، أو من انعدام سقف يؤويه ، ويبدو ما أنتجه بيديه شيئا غريبا عنه وعدوانيا ، وفي ملك الآخرين وليس في ملكه هو، إضافة إلى أن العامل مستلب في فعل الإنتاج ذاته ، فهو لا يعمل لأنه يحس برغبة في ذلك ، وإنما يعمل من أجل أن يعيش. هكذا يتحول العمل إلى تضحية مستمرة للأنا الفردية ؛ ذلك لأنه وبالنسبة لماركس، يعتبر الإنتاج – أي قدرة الإنسان على التموضع وعلى خلق الأشياء – سمة مميزة للنشاط الإنساني في كائن مستلب ، هو كائن مستلب من كينونته الخلاقة ، أي من نوعه الإنساني ذاته ، والمسألة هي أن العلم ، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه ، يساهم كليا في الاستلاب المتعلق بالعمل: ” إن علوم الطبيعة تتدخل بشكل أكثر عملية في الحياة الإنسانيةوتحولها ، وتمهد للتحرر الإنساني ، كما بإمكانها أن تنجز بشكل مباشر عملية إفراغ الإنسان من إنسانيته . إن الصناعة هي العلاقة التاريخية الواقعية للطبيعة، و بالتالي لعلاقة علوم الطبيعة بالإنسان “.

يتجلى هذا الاستلاب من طرف علوم الطبيعة بشكل صارخ في الأشكال التكنولوجية الخاصة التي تستعملها الصناعة؛ فليس العلم بمعنى عام غير منفصل عن سيرورة الإنتاج ويعمق الاستلاب فقط ( ولو أنه يوفر أرضية اختفائه في نفس الآن ) ، ولكنه في الآن الذي تتطور فيه القدرة الإنتاجية للصناعة ، يصير هو ذاته قوة منتجة ، قوة تؤدي بتناميها إلى إضعاف الكفاية الفكرية والفيزيائية للعامل الذي يغدو تبعا لوصف ماركس (سنة 1848) مسمار ا في آلة.

” إن القدرات الذهنية للإنتاج تتطور من جانب واحد ، وذلك لأنها تختفي في كل الجوانب الأخرى. إن ما يفقده العمال ( المتفرقون ) يتركز إزاءهم في شكل رأسمال . إن التقسيم الحرفي ( المانيفاكتوري ) يقوم في تعارض مع القوى الذهنية للإنتاج. . . ويبدأ هذا الانشطار في الظهور في التعاونية البسيطة . . . ويتطور في المانيفاكتورة التي تشوه العامل إلى درجة جعله جزءا ذاتيا منها ، ويكتمل في النهاية مع الصناعة الكبرى التي تتخذ من العلم قوة منتجة مستقلة عن العمل ، وتوظفه في خدمة الرأسمال”.

” أكيد أن العمل ( العلاقة المباشرة بين العامل والإنتاج ) ينتج العجائب للأغنياء، . . . إنه ينتج الفكر، غير أنه ينتج البلادة والغباء لدى العامل”.

ولو أن ماركس وإنجلز لا يتحدثان عن امتدادات الآلية في إنتاج العلم المعاصر ، مما يعني الانتقال من داخل العلم ، ومن داخل مانيفاكتورة الصناعة التقليدية إلى مانيفاكتورة الصناعة الحديثة ، فمن الواضح أن العلم هنا متصور من طرفهما كفرع من فروع الإنتاج ، خاضع للقوانين العامة لهذا الأخير. وهكذا ، ففي حين كان العلماء في القرن 19 يعملون لوحدهم ، ( أو بمساعدة تقني – مجرب ) ، فإن العمال – العلماء يوجدون الآن ، مجتمعين في الغالب ، في مختبرات وحول تجهيزات من أعلى مستوى، وما فعلته آلة النسيج لخلق عمال المصنع، أنجزه تسريع الجزيئات بالنسبة للعمال – العلماء. ” ليس الدين والأسرة والدولة والقانون والأخلاق والعلم والفن . . . إلخ إلا أنماطا خاصة للإنتاج تندرج في إطار القانون العام”.

ولأن إضفاء الطابع الاجتماعي على الإنتاج العلمي تلا إضفاء هذا الطابع على الإنتاج عموما ، فإن صفة الاستلاب المرتبطة بالعمل العلمي لم تكن لتنجلي بوضوح إلا بعد وفاة ماركس وإنجلز. وكما تعاظم ” الذكاء العام ” للعلم ، فقد تشوه العمل العلمي مرة واحدة على مستوى الذكاء، وعلى مستوى المهارة اليدوية. أكثر من ذلك ، وكأي عمل مستلب ، فقد استخدم إنتاج العامل – العالم لاضطهاده هو ورفاقه في العمل سيرورة ظهرت سابقا في منتصف القرن 19 ، كما أشار إلى ذلك ماركس في الرأسمال: ” قد يكون ممكنا وصف تاريخ كامل للإنجازات المحققة منذ سنة 1830 ، والتي يتمثل هدفها الوحيد في منح الرأسمال الأسلحة ضد ثورة الطبقة الشغيلة”. [ الحديث هنا ليس بالفعل عن العلم ، وإنما عن التقنيات العسكرية] “.

هيلاري وستيفن روز

” الإرث الإشكالي : ماركس إنجلز وعلوم الطبيعة”

في الإيديولوجيا ، ومن : في العلم

سوي 1977 ص ص : 23 – 26

إن إنتاج الأفكار العلمية ليس مستقلا عن نمط الإنتاج الرأسمالي وعن وجهه الإمبريالي : وكما سنرى من خلال أمثلة متعددة في النص التالي ، فإن الأبحاث الأقل إيذاء والأكثر لا مبالاة ظاهريا ، تجد بالضرورة ذات يوم تطبيقات تقنية تحمل طابع اللامساواة والاستغلال من قبل النظام الاقتصادي حيث تم إنتاجها ، والذهاب بها إلى تخليد الاستغلال وتقويته ، ” تجد بالضرورة ” كما قلنا ، وذاك تلازم غريب للصدفة والضرورة ! وتلك بحق مع ذلك هي وضعية العلم الذي حتى إذا حصل ولم يكن موجها لغايات فورية تتمثل في الربح والتحكم ، ولم يكن العلماء فيه غالبا مستخدمين في مهام تقنية تشتم منها رائحة العسكرة ، فإن الاكتشاف فيه سيكون من ميدان لا يمكن استبصاره ، في حين أن استغلاله هو دائما استغلال اجتماعي.

3. لا يفلت البحث العلمي من السياق السياسي والاقتصادي

أو كيف يتولد العلم من CIA.

” اندهش الأنثروبولوجيون الذين كانوا يدرسون الأنظمة الاجتماعية في القبائل الجبلية ، وذلك عندما علموا أن CIA تجمع معطيات أعمالهم لاستخدامها في عمليات مناهضة عصيان السلطة ، وبذلك فقد خلق علماء النفس الذين كانوا يبحثون في معاملات الذكاء الإنساني لأغراض ” علمية خالصة ” ، وبدون علمهم ، أدوات لقياس الذكاء انفلتت من بين أيديهم عند اكتمالها ، لتخدم الآن مصلحة السلطات العسكرية في مجال توظيف رجال لحرب الفييتنام ،وكذا مصلحة الجيش الأمريكي بخصوص التحكم أكثر في فعالياته ، وأكثر من ذلك ، فإن هذه الأدوات التي تسمح بقياس الذكاء ، تشكل جزءا أساسيا في النظام المدرسي للفرز ، والذي يبدأ منذ سنوات العمر الأولى ، في تقليص حظوظ أطفال الطبقة العمالية في الانتقال إلى مستويات عليا من التكوين والحراك على المستوى الاجتماعي.

ومع الأسف ، لا تتوقف مشاكل تقييم البحث الأساسي عند حدود التطبيقات المخربة التي أتينا على ذكرها ، إذ يجب أيضا القيام بفحص للنتائج الاقتصادية لهذا البحث، وهي نتائج تنشأ عن الرأسمالية الخاصة التي نعيش في ظلها.  إن المعرفة العلمية ومنتجاتها ، كأي بضاعة أخر ى في مجتمعنا ، هي معرفة معروضة للبيع من أجل الربح ، بمعنى أنها ليست موزعة بطريقة عادلة ، وليست في متناول أي شخص ، وليست قابلة للاستعمال بشكل عادل من طرف كل شرائح البشر. وإذا كانت تلك المعرفة تؤمن شروط الحياة المادية لكثير من الأفراد ، فإنها مع ذلك موجهة عبر قنوات تنظيم وتوزيع النذرة ، وبطريقة تسمح بعقلنة نظام الاستغلال الاقتصادي وضبط المجتمع بكليته ، وهي تتحول من جهة أخرى إلى امتياز للطبقات الوسطى والعليا ، مما من شأنه أن يؤدي إلى تعاظم الحيف اللاحق بقطاعات هي قبلا الأكثر عرضة للظلم والإجحاف من بين قطاعات الشعب.

وما يمكن استنتاجه من هذه الأمثلة ، التي يمكن بسهولة استعراض مثيلاتها وتنويعها ، هو أن الإنجازات المحتملة للتكنولوجيا العلمية لا تفلت من السياقين السياسي والاقتصادي، بل بالعكس تظهر على شكل منتجات موزعة منهجيا بطريقة غير عادلة لكي تتحول إلى أدوات أخرى للسيطرة وللإنجاز الدقيق للأهداف الاقتصادية لدى أولئك الذين يحوزون السلطة ويمتلكونها.

إن المعارف الجديدة التي لا تقبل التطبيق، والتي تمكن من التخفيف من أشكال الظلم والإجحاف التي هي لصيقة بالرأسمالية والإمبريالية ، هي إما غير مستعملة بالدرجة الأولى ، وإما هي فاقدة لقيمتها بالنظر إلى محدودية الموارد لدى الضحايا”.

بيل زيمرمان وأليي

علم من أجل الشعب

في : أ. م . لوبلوند – نقد العلم .

نقط 1975 ص ص : 59 – 61.