Category Archives: ماركسيات

المثقفون ومسارات الردة

ترى ما الذي أصبح عليه حال الماركسيين اليوم ؟ .. بعضهم انخرط في ” ماركسية بيان الموجودات ” ، والآخرون تخلوا بعد تمعن عن المرجعية الماركسية واتجهوا صوب مبادرات فكرية مغايرة . وبمكر تاريخي ؛ فإن الجامعيين الأنجلوسكسونيين هم الذين أصبحوا اليوم يوفرون للماركسية أكثر الآفاق التجديدية أصالة .
بقلم : جان بودوان*
عــــن : مجلة العلوم الإنسانية رقم : 63 يوليوز 1996
المثقفون ومسارات الردة

في كتابه التقليدي ” حول الماركسية الغربية ” المنشور سنة 1977 ربط بيرُي أندرسون النجاح السياسي والمادي للماركسية بشرطين اثنين : من جهة بوجود حزب شيوعي قوي وقادر في نفس الآن على تنظيم غالبية أفراد الطبقة العمالية وتشكيل قطب بديل . ومن جهة أخرى بوجود أنتلجنسيا كثيرة العدد وديناميكية ، مهتمة بازدهار ثقافة ماركسية حية وخلاقة . وهذان الشرطان لم يجتمعا على مستوى تاريخ البلدان الأوربية إلا في ثلاثة بلدان هي : ألمانيا خلال العشرينيات ، إيطاليا وفرنسا ، حيث تمكنت الأحزاب الشيوعية ووجه المثقف اليساري من الاحتلال الدائم لمكانة مركزية في الحياة السياسية . لكن كان على الماركسية في هذه البلدان ذاتها أن تعاني من فشل المحاولات الثورية للسنوات ما بين 1920-1917 ، وأن تعرف ” طلاقا بنيويا في ما بين النظرية والممارسة ” .
وهكذا فإن علمنة هذه عاناحظ تجدد وانبعاث لهذا الفكـــر تلك البلدان التي كانت صية تقليديا على الفكر الماركسي بادئ ذي بدء في طموحاتها الأولى ؛اركسية أيضا هو قدرتها التنبئية ؛اعتراف بمعنى ما بنقصان النظرية مع إيلاء انتباه جديد كليا للقارات الفكرية الأخرى . إن العقيدة الماركسية حتى ولو تم الاحتفاظ بها ، لم تعد النجم اللامع الوحيد في سماء الإيديولوجيات .

الالتفاف المدروس على المرجعية الماركسية

إن المفكرين والتيارات المتمركسة عندما لا يختارون ماركسية بيان الموجودات هاته فإنهم يهجرونها لموقف النسيان أو التهجين . ومن وجهة النظر هاته فإن ثلاثة أنواع من المبادرات الفكرية تستحق الذكر ، وهي تمثل انعطافا إن لم نقل قطيعة هامة مع الوصية النظرية للماركسية ، ولكنه الانعطاف أو القطيعة التي توفر أيضا مخرجا معقولا لكل أولئك الذين ” صدقوا ” وآمنوا بصلاحية هذا الفكر الداخلية : (1 النظرية الاجتماعية للإيطالي سلفاتور فيكا المستلهمة من الفيلسوف الأمريكي جون راولس ؛ (2 نظرية الفعل التواصلي لدى يورغن هابرماس ؛ (3 وأخيرا سوسيولوجيا بيير بورديو التي ولو أنها انتشرت في إطار سوسيولوجية أجنبية عن التكهن الماركسي ، فإنها تقدم على الأقل تشابهات وتماثلات هامة مع المنظور الاجتماعي لدى ماركس .
الغواية الراولسية :
يعتبر سلفاتور فيكا عموما الناطق الرئيسي في ما وراء الألب باسم فكرة جون راولس ؛ ففي كتاب صدر سنة 1987 بعنوان : ” برنامج ماركس الاقتصادي ” انتقد عقيدة ماركس لأنها لا تساعد من وجهة نظره على التفكير الصحيح في إحراجات ( مشاكل منطقية غير قابلة للحل ) حداثتنا الليبرالية . ولقد ترك المجال في كتبه الأخيرة للاعتقاد بأن الفلسفة السياسية لمؤلف ” نظرية العدالة ” هي الأفضل موقعا للحلول محل ماركسية لا وارث لها ، ولإصلاح التفكير الجماعي منذ الآن في مستقبل المجتمعات الإنسانية .
وبشكل عام فإن فكر جون راولس يوفر منفعة لا تنكر للمثقفين الماركسيين الذي هم في حالة انقطاع معلن عنها ، والذين هم على شاكلة س. فيكا في بحث دائب عن آفاق جديدة . إنه يبرهن على أن التخلي عن الماركسية التي هي في نفس الآن شبيهة بيوتوبيا علمانية وبأداة للتحليل لا يستلزم أبدا الانخراط بلا تحفظ في نظرة فردانية للمجتمع ؛ إنه يمكن من تعميق تبرير الديمقراطية ، ودعم الحريات السياسية ونوابض الاقتصاد الليبرالي مع العمل في نفس الآن على اقتراح مبادئ للعدالة الاجتماعية .
إعادة البناء الهابرماسية :
بكل تأكيد يمثل عمل هابرماس غير المكتمل ” خروجا ” من الأورثودوكسيا التي كثر تبجيلها وتعظيمها في نظر مستعمل قديم للمذهب الماركســـي .
لقد عمق يورغن هابرماس حركة التباعد التي مارستها مدرسة فرانكفورت قبلا حيال النظرية الماركسية . ولقد عبر في كتابه ” ما بعد ماركس ” عن إرادته في تحرير أفكاره الخاصة من الإطارات الأساسية للأورثودوكسيا الماركسية وتجديد الاتصال بتقليد ألماني قديم يحدد للفلسفة مهمة توحيد مساهمات المباحث الأكثر تنوعا بداخل بناء جامع ، فما هي بالضبط المكانة التي احتفظت بها هذه الماركسية المطهرة سابقا في كنف هذه الكوكبة الفكرية الجديدة ؟ .. فإذا كانت الماركسية لا تزال مطلوبة بالنسبة ليورغن هابرماس من أجل المساهمة في فهم الشأن المجتمعي وتوضيح تناقضاته ، فلم يعد من شأنها بالمقابل أمر إصدار الوصايا و لا حتى ممارسة النبوءة . إن عمل العلمنة يطرح على الأقل السؤال التالي : هل من الممكن ، مع الحفاظ تماما في الذهن على ضرورة نقد للهيمنة ، تصور نظرية للانعتاق لم تعد تمر أبدا عبر يوتوبيا ثورية ؟ .. نعم ، يجيب هابرماس ، لكن بشرط جمع النموذج الكلاسيكي للهيمنة بالنموذج الأوسع للتواصل . هنا تكمن المساهمة الأكثر خصوبة بكل تأكيد لإعادة البناء الهابرماسية للمادية الديالكتيكية ، والتي عرضت نتائجها في ” نظرية الفعل التواصلي ” .
منذ أن فقدت التقاليد والعادات والقيم سلطتها المنظمة والضابطة وتمددت وتتمدد دائما إلى الأمام أكثر ضروب المنطق المحاذية لـ ” العالم المدار ” و ” العالم التجاري ” و” استعمار بنيات العالم المعيش ” ، فإن الحفاظ على / وتوسع ” فضاءات التفاهم المشترك ” تمثل في أعين هابرماس العقبة الرئيسية في وجه خيبة الأمل . لا شيء أكثر استعجالا بالخصوص من الحفاظ على بنيات الحياة الاجتماعية ، والأسرة في المقام الأول لأنها تتعارض بشكل أكثر فعالية مع ضروب المنطق المدمجة لاقتصاد السوق والإدارة النظامية . لقد قادت هذه المهمة هابرماس إلى إعادة الإعلاء من شأن الديمقراطية على حساب الليبرالية ، وهو يعتبر إقامة دولة الحق المحترمة للحريات والمراهنة في النهاية على إعادة بناء ” فضاء عمومي ” يساهم المواطنون في كنفه طبقا لتعاليم الأخلاق التواصلية في إنتاج واتخاذ القرارات العمومية مكسبا حاسما .
سوسيولوجيا بيير بورديوالنقدية :
لقد رفض مؤلف ” مهنة السوسيولوجي ” دائما أن يعلن ولاءه لفكر ماركس أو لفكر أتباعه وخلفائه ، معترفا بأنه لا يعدم حججا من أجل إسقاط الصلاحية عن هذا الانتماء .
– إذا ما ألقينا أولا نظرة على جينيالوجيا أعماله فإننا سنقف مباشرة على أنها أنجزت خارج السبل التي وضعت معالمها من قبل التأمل الماركسي وعلى قاعدة السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية . و بورديو يطالب صراحة بإدراج فكره داخل التقليد السوسيولوجي الفرنسي ( سوسيولوجيا إميل دوركهايم ) .
– و لا يمكن اعتبار رفضه توريط البحث السوسيولوجي في المقام الأول في التزام من طبيعة سياسية ، أو أيضا في عقائد الخلاص ، فإن سوء التفاهم الذي حصل مباشرة في ما بين مدرسة ب. بورديو ومثقفي PCF يعتبر سوء تفاهم يمكن على الخصوص من فهم السبب وراء عدم تأثر سوسيولوجيا الهيمنة الرمزية أبدا من جراء الأزمة التي عصفت بالماركسية الغربية . وإذا كان التقليد السوسيولوجي الذي أعاد ب. بورديو تناوله وإغناءه تقليدا يمكن من البقاء على قيد الحياة بعد تفتت النبوية الثورية ، أفليس ذلك أفضل دليل على أن هذا التقليد ينهض ويزدهر على قاعدة ركيزة فكرية غريبة تماما عن الأرضية الماركسية ؟ ..
– وإذا كان ممكنا بشكل مؤكد أن نكتشف بداخل وسط بورديو ( مدرسة بورديو ) جيلا عايش المحاولات الثورية للعشريات 1970-1960 ، فإن هذا الوسط ذاته جمع أيضا أجيالا لم تعرف هذه الفترة ، أجيالا شغفت بهذه ” الصرامة المزعجة ” التي دعتهم إليها مدرسة بورديو والتي سيكون مفاجئا بدون شك أن تماثل بجماعات المحرضين الماركسيين اللينينيين ! وما يتبقى بعد ذلك هو أن هنالك تقاربا قويا بشكل خاص في ما بين هذين المذهبين .
– عنصر التواطؤ ( الاشتراك ) الأول في ما بين سوسيولوجية بورديو والفكر الماركسي يتمثل في أن كلا منهما انشغل بالتفكير في النظام الاجتماعي عبر نموذج الهيمنة ، وأنه ليس من الممكن الوصول إلى استيعاب واضح للفضاء الاجتماعي بدون توضيح التناقضات الطبقية التي تشكل القاطرة الكبرى للحياة الاجتماعية : ويجدر بنا مع ذلك أن نضيف أن سوسيولوجيا بورديو تشكلت أيضا ضدا على ” تحريفية ” معينة للتقليد الماركسي وهي تلح على أن تصطنع طريقة جد مدققة لوصف الميكانيزمات المعاصرة للهيمنة الاجتماعية . إن بورديو يعمل على أن ينجز لنظرية الهيمنة ضربا من الثورة الكوبرنيكية ، محولا النظر من أماكن إنتاجها المفترضة نحو ميكانيزمات إعادة إنتاجها ، وقد توصل مؤخرا بهذا (التطبع )على الخصوص إلى صياغة مفهوم جديد هو مفهوم التطبع Habitus . وبوصف هذا المفهوم محددا باعتباره ” نظاما للإجراءات المستدمجة ” أو أيضا ” قالبا مُبَنْيِناً للإدراكات والسلوكيات ” ، فإن التطبع يوجه كل فرد بداخل الفضاء الاجتماعي محددا له وبدون علم من فهمه الخاص اختياراته وأذواقه وسلوكاته ، ومن ثم لا حاجة ” لأجهزة الدولة الإيديولوجية ” من أجل إعادة تفعيل عنف رمزي ينتج ” بشكل طبيعي ” عبر توسط أزراره ومفاتيحه الثقافية التي هي أشكال التطبع ! .
– إن نقد الديموقراطيات الحديثة الذي تتضمنه سوسيولوجيا بورديو يشكل تماثلا ثانيا مع التحليل الماركسي ؛ و لا شيء يوضح بشكل أفضل التصور التحقيري بشكل لا يقاوم للديمقراطية لدى ب. بورديو غير الأجزاء الكبيرة من عمله والمخصصة للتربية والتعليم . إن المدرسة بشكل أكيد هي المؤسسة التي يتم اللجوء إليها بشكل منتظم إلى جانب الاقتراع العام من أجل تأكيد الطموح المحرر أو التحريري لدى الديمقراطية . بيد أن كل تأملات بورديو حول المدرسة تستهدف تفكيك أسطورة الاستحقاق التي تغذي الصناعة الجمهورية للصورة منذ جول فيري . إن ما يعتبر حدثا هو أنه في العصر الحالي الموسوم بسقوط البدائل الثورية تعتبر سوسيولوجيا بورديو على الأرجح المؤسسة الفكرية الوحيدة ذات بعض الأهمية التي لا توافق على القبول بإيجابية ما للمبدأ الديمقراطي ، وبهذا الخصوص فهي تذهب إلى ما وراء الطبعات الأكثر أورثودوكسية في الماركسية الجديدة والمعاصرة .
– وإذا ما اهتم بفصل السوسيولوجيا التي تشتغل في مجال ” وصف ” الفلسفة أو السياسة التي تبذل قصارى جهودها من أجل ” تقديم الوصفات ” فهو لا يفوته أن ” وصف ” العلاقات الاجتماعية هو شيء آخر غير كونه مجرد تقرير علمي ، ” ستكون العلاقات الاجتماعية أقل تعاسة إذا ما تحكم الناس على الأقل في الميكانيزمات التي تحكم عليهم بالمساهمة في بؤسهم الخاص ” . وهكذا ، فإن السوسيولوجيا يمكن أن تمارس عملا نافعا ومجديا من خلال إخبار أفراد المجتمع الأكثر خصاصة بنوابض الهيمنة الممارسة عليهم ، ومساعدتهم بذلك على إمساك زمام مصائرهم بأيديهم .

تجدد الماركسية الأنجلوفونية

علينا أن نعترف ولو أن إنجلترا هي الأرض التي شهدت ميلاد الاقتصاد السياسي الماركسي بأن ما لم يكن منتظرا هو أن تتجدد الماركسية انطلاقا من جامعة أوكسفورد أو كمبريدج ، هارفارد أو ستانفورد إن لم تشكل توسعا معتدلا للماركسية الغربية . وبالفعل ، فحتى الثمانينيات برز الفكر الماركسي بداخل المشهد الفكري البريطاني كثؤلل صغير معلق بالإرادة الطيبة لدى الأكاديميات المهيمنة . وقد وقف تأثيره في كنف الجامعة عند حدود ” مساحات محدودة ” : التاريخ المعاصر على سبيل المثال ؛ حيث مارست أعمال م. دوب و إ. هوبسباون أو ت. كليف وحققت إشعاعا حقيقيا .
وفي الوقت ذاته الذي مارست فيه إغراء وجاذبية كبيرين على الأوساط الفكرية القارية ، من كان يستطيع أن يتصور أن هذه الماركسية المجدة والوحيدة ستستبق بالفعل المصير اللاحق للماركسية الغربية وستملي عليها حتى الشروط القبلية لبقائها على قيد الحياة ! .
وانطلاقا من الثمانينيات بالمقابل التقت الماركسية الأنجلوفونية هذا النزوع الثقيل للمشهد البريطاني الذي شكلته الفلسفة التحليلية بمزجها خلسة للانشغالات والمبادئ والاحتياطات الحذرة : ونتجت عن ذلك ماركسية متثاقفة بشكل كامل ؛ ماركسية هي في نفس الآن ” تحليلية ” ، ” فردانية ” و ” أخلاقية ” .
ماركسية تحليلية :
يعلن على العموم كتاب ج.أ. كوهن ” نظرية التاريخ لدى كارل ماركس ” الذي ظهر سنة 1978 حفل الخطوبة الغريب نوعا ما بين الماركسية الأنجلو سكسونية والفلسفة التحليلية . و ج. أ كوهن الذي كان تلميذا لجيرار ريل ؛ المدير النافذ التأثير في مجلة ” مايند = العقل ” ينبه في مستهل الكتاب إلى أنه فرض على ذاته ” إكراهين اثنين : نصوص ماركس من جهة ، ومعايير الوضوح والصرامة التي تسم فلسفة القرن العشرين التحليلية من جهة أخرى ” . وقد شكل هذا المسعى مدرسة وفتح آفاق التطور الجديدة التي ستمكن من توطيد فرع ديناميكي وأصيل للماركسية الغربية حول مفكرين كجون إيلستر ، آدم بريفورسكي ، جون رومر ، ب. فان بارييس أو إ.أ. ورايت .
وتطبق ” الماركسية التحليلية ” على التقليد الفكري المنحدر من أعمال ماركس المناهج والقواعد المعروفة بأنها في مبدأ كل بحث ذا سمة علمية . إن الفكر الماركسي لم يعد يعتبر وبشكل يحظى بالأسبقية ك : ” تصور شمولي للعالم ” ، وإنما كمجموع محدود من المشاهد النظرية قابلة للعزل والتحليل وقابلة للرفض أيضا احتمالا . أعمال ماركس مفككة هنا بحرص شديد إلى تعدد من القضايا من بينها قضايا هي من العمومية المفرطة حتى أنها لا تقبل أن تحاكم تجريبيا ، لكن بعضها الآخر واضح ومحدد بما يكفي بشكل يمكن من تعريضه لـ ” مبدأ التحقق ” . وهذا المنهج التحليلي المتمثل في مجابهة القضايا المفردة للنظرية الماركسية بتطور المجتمعات هو مشغل بشكل خاص في مجال النظرية الاقتصادية . وهكذا لا يتردد ببريطانيا العظمى ج.أ. رومر أو أيضا ب. برينير في وضع الأصناف المركزية للاقتصاد السياسي الماركسي موضع تساؤل : القيمة ، الاستغلال ، فائض القيمة ، بينما تناول إ.أ. ورايت مفهوم ” الطبقات ” الاجتماعية العريق على ضوء التحولات المعاصرة .
ولو أن الماركسية التحليلية لم تعلن عن ذلك كمرجع فإن الموقف ” النقدي النزعة ” وليس الدوغماطيقي الذي تتبناه الماركسية الأنجلوفونية يحين على طريقته المقاربة الجديدة التي جربها كارل بوبر سنة 1942 في كتابه الكلاسيكي ” المجــــتمع المفتوح وأعداؤه ” .
لقد كان الإبستمولوجي الفييني ( نسبة لمدينة فيينا ) قد قرر حينها أن يحمل على محمل الجد الزعم العلمي للفكر الماركسي ـ الذي ميزه بدقة عن ذريته ” الماركسية ” ـ وأن يعتبر أطروحاته الأساسية عبارة عن قضايا قابلة للتكذيب منطقيا وتجريبيا ومن ثم توقفت الماركسية عن أن تكون غرابة فكرية لكي تضحي مجرد بناء فرضي استنتاجي قابل للمحاكمة بهذه الصفة بالإجراءات المستخدمة في كنف مجتمع العلماء .
إن تطبيق معالجة ذات خصائص علمية على الماركسية يطرح مشكلة كبرى على كل أولئك الذين لم يفقدوا الأمل رغم كل شيء من الأدوات الفكرية الموصى بها من طرف مؤلف ” رأس المال ” . فهل يمكن احتمالا أن تقود مستخدميها إلى هجر عقيدة أضحت متقادمة ؟ .. تلك على سبيل المثال هي قناعة كارل بوبر . وإذا ما توقفنا عن اعتبار الفكر الماركسي كما لو كان فكرا ” صادقا ” بالضرورة ، كشكل من أشكال قبلي المعرفة ، حتى لا يتم الاحتفاظ منه إلا بمجموعة من القضايا القابلة للتحقق والتكذيب تجريبيا ، فإن ماركسية فاضلة وصادقة ستقبل إذا اقتضى الحال ذلك أن يتم إبطالها . إن تقريرا نقديا ومخيبا لآمال النظرية الماركسية هو تقرير قاتل لها بالقوة .
والماركسية التحليلية تقبل هذا الاحتمال ؛ إنها تقبل وجوب أن يتضمن استعمال صارم للفكر الماركسي وبشكل فبلي فرضية اختفائه الخاص بوصفه بنية لفهم العالم الاجتماعي ، وقد تم الدفاع عن هذا الرأي بصلابة من طرف جون إيلستر الذي يعتقد بوجوب أن يظل تقييم المفاهيم الماركسية مستقلا بشكل صارم عن أي اعتبار إيديولوجي .
ماركسية فردانية:
المساهمة الثانية للماركسية الأنجلو سكسونية تمثلت في جمع التحليل الماركسي مع ما يعتبر مبدئيا نقيضاله : أي الفردانية الميثودولوجية ومصادرة الاختيار العقلاني .
فإذا كانت الماركسية تقدم نظرية للتاريخ تحقق الرضا غالبا ، فإنها تصبح باطلة بشكل غريب عندما يتعلق الأمر بالتنظير للأفراد الذين يصنعون هذا التاريخ . تلك كانت القناعة الأمثل رسوخا لدى الماركسية التحليلية : فالنزعة الفردانية الميثودولوجية ، وبشكل مفرد نموذج الاختيار العقلاني ، إن لم تكن نظرية الألعاب ، تمكن بشكل جد نافع من تصحيح وتقويم ” السببيات الخطية ” التي وصمت الماركسية الكلاسيكية وعاقتها عن التفكير أيضا في اللعب الحر لقوة إرادة الفعل الفردية .

إن الفردانية الميثودولوجية تمكن على الخصوص من إعادة تأسيس نظرية فعل الطبقة وصراع الطبقات . وقد أشار كلود أوف خلال شرحه لأعمال آدم بريفورسكي على سبيل المثال إلى أن العبد لم يكن في ظل بنية قامعة جدا كبنية العبودية ” مسحوقا ” كليا ، بل كان يتوفر على عديد من ” الاستراتيجيات ” : استراتيجية المجابهة ( سبارتاكوس ) ؛ الاستراتيجية الإصلاحية ( المطالبة بتحسين ظروف العيش ) ؛ استراتيجية الخروج من المجتمع ( خرجة هيرشمان ) ؛ الاستراتيجية الفردانية ( الترقي إلى عبد ـ رئيس ) . فحيث تعترف الماركسية المبتذلة ببديل وحيد ؛ الانسحاق أو الثورة ، فإن الماركسية الفردانية تحصي الاختيارات الأكثر تنوعا . إننا نحزر بسهولة أن ماركسية الاختيار العقلاني هاته تسحب كل عواقب هذا الاختيار الميثودولوجي على التطورات المعاصرة للمجتمعات الرأسمالية ، وتعيد النظر خاصة في أطروحة السمة التي لا محيد عنها للثورة البروليتارية . إن الماركسية الكلاسيكية تصف سلسلة من السيرورات الموضوعية المؤدية ” بالعمال ” بالضرورة إلى الاتحاد من أجل ” قلب ” النظام الرأسمالي وإقامة نظام اجتماعي يخدم مصالحهم ، أما الماركسية الأنجلوفونية فتحاول على النقيض من ذلك أن تفسر لماذا لم تتحقق أية ثورة بالبلدان الرأسمالية المتقدمـــة .
ماركسية أخلاقية :
وبذلك فإن مختلف تنويعات الماركسية التحليلية توافقت بهذا الشكل من أجل التخلي عن الخلط الذي أقامه هيجل في ما بين عالم ” الوقائع ” وعالم ” القيم ” ، والشك في إلحاق مفهوم الأخلاقية بمفهوم صراع الطبقات المجرى من قل ماركس . ونظرا لغياب تعيين أساس أخلاقي للماركسية فإنه يجمل الفصل بشكل أفضل في ما بين مجال التحليلات العلمية ومجال التقييمات الأخلاقية وربما أيضا إقرار الأطروحة الكانطية التي توجد حسبها مجموعة من الإلزامات العامة هي مستقلة عن التجربة المحض تاريخية والتي تفرض ذاتها بشكل إلزامي على الذوات العاقلة المحررة من كل احتمالية مادية أو اجتماعية .
إن إعادة تقييم الأخلاق لدى بعض ممثلي الماركسية التحليلية تستلزم عواقب أكثر جذرية ؛ فبالنسبة لهم توجد نواة من المعايير الأخلاقية لا تدين في وجودها و لا في أصلها في شيء للتفكير الماركسي والتي يجب أن تحمل على محمل الجد إذا كنا نريد بناء مجتمع عادل . إن راولس هنا ليس بعيدا ، ونحن نفهم أن عددا معينا من ” الماركسيين التحليليين ” رضخوا هم أنفسهم أيضا للمحاولة الراولسية ، مثل ك.ج. رومر على سبيل المثال الذي تصور توافقا في ما بين نظرية ماركس الاجتماعية وفلسفة راولس الأخلاقية . ” لقد تغير التوزيع الجغرافي للأعمال النظرية حول الماركسية بعمق خلال العشرية الأخيرة ، وحاليا يبدو أن المراكز الأساسية للإنتاج الفكري تجد ذاتها في العالم الأنجلوفوني بدل أن تجدها في أوربا الجرمانية أو الرومانية ، كما كان الحال على التوالي خلال ما بين الحربين أو فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ” . وهذه المعاينة التي أجراها بيري أندرسون سنة 1983 لا زالت تحتفظ بكامل سدادها ووجاهتها . إن غالبية عائلات التفكير الماركسي انطفأت الواحدة تلو الأخرى ، بينما كمنت نيران جديدة في ظل الفلسفة الأنجلو سكسونية ، كما أنها تقوت بخصوص بعض القضايا بفعل تطوير البحوث ذات الاستلهام الماركسي بالولايات المتحدة سواء في المجال الاقتصادي للعلاقات الدولية ( باران وسويزي ـ والرشتاين ) أو في قطاع تحليل السياسات العمومية ( أوكونور ) .
وتبرهن هذه التطورات الحديثة على أن الفكر الماركسي لا يمكن أن يظل على قيد الحياة إلا بفعل علمنة جذرية لمحتوياته ، وفي هذه الحالة فليس هناك فقط فصل للنظرية عن التطبيق ، وللفهم والنبوءة ، بل هناك بالإضافة إلى ذلك إدماج للمفاهيم الأكثر ” قابلية لتمثيل ” النظرية الماركسية في الإطارات المعدة سلفا لأنظمة التفكير اللاماركسية : الفلسفة التحليلية ؛ الفردانية الميثودولوجية ؛ الأخلاق الديمقراطية المعاصرة . ونستطيع مع ذلك وبشكل معقول أن نتساءل عن ما سيتبقى من خصوصية الماركسية إذا ما ظلت هذه الأخيرة دائما أكثر تبعية وتوقفا على أعشاشها الإيكولوجية الجديدة .

ميادين تأثير الفلسفة الماركسية

نظرية الإمبريالية ، فلسفة التاريخ ، الفرويدية الماركسية ، سوسيولوجيا الطبقات ، الشغل ، الدولة ، … الخ . لقد مارست الماركسية خلال القرن الـ 20 تأثيرا عميقا على حقل العلوم الإنسانية بأكمله.
  • في السياسة 
1920-1900انطلاق الأممية الثانية (1914-1889) التي انتشر في حضنها تيار اشتراكي – ديمقراطي ” تحريفي ” (ك. كاوتسكي ، و. برنشتاين ) وتيار بولشفيكي (حوالي1903 ) . وستعرف الماركسية على الخصوص انتشارا وتوسعا بوسط أوربا وشرقها.
  • في الفلسفة
1950-1920˜ماركسية فلسفية
الفيلسوف الهنغاري الشاب جيورجي لوكاش (1971-1885) ينشر ” التاريخ والوعي الطبقي“(1923) ، وفيه يطور نظرية الاستلاب ، وكارل كورش ينشر ” الماركسية والفلسفة“(1923) .
المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1937-1891)المسجون من قبل نظام موسوليني ما بين 1934-1926 يكتب ” دفاتر السجن ” التي نجد بها خاصة نزعة إنسانية ماركسية متحررة من نزعة اقتصادية ضيقة وكذا نظرية المثقف والثقافة .
  • في علم النفس
˜الفرويدية الماركسية
وليم رايش (1975-1897) كتب ” وظيفة الذروة الجنسية ” (1927) وأسس مركز الجنس ببرلين سنة 1930 (جمعية من أجل سياسة جنسية بروليتارية )
  • في علم الاجتماع
˜1960-1925
سوسيولوجيا المعرفة والثقافة
كارل مانهايم (1947-1893)يقرر في ” الإيديولوجيا واليوتوبيا ” أن الإيديولوجيا هي دائما تعبير عن مصالح وعن وجهة نظر جماعة اجتماعية ، والمثقف ” الذي هو بدون روابط اجتماعية ” يستطيع مع ذلك تحقيق نوع معين من الموضوعية . وقد حلل مانهايم بعد ذلك مبينا كيف أن اليوتوبيات الاجتماعية ظهرت خلال التاريخ بعلاقة مع جماعات اجتماعية معطاة.
فلاسفة آخرون طبقوا الماركسية في تحليل الأعمال الأدبية : ج. لوكاش ؛ ل. جولدمان ؛ ت. أدورنو ؛ ديلا فولبي ؛ إ. بلوخ .
˜1915-1910نظرية الإمبريالية.
سيؤدي تطور الرأسمالية بالمستعمرات وعافيتها بالبلدان الغربية وتجابه القوى الكبرى الماركسيين في بداية القرن إلى إقامة نظرية للإمبريالية : روزا لوكسمبورغ (1919-1871) “تراكم رأس المال ” 1911 ؛ ر. هيلفيردينغ (1941-1877) ” رأس المال المالي ” 1910 ؛ لينين (1923-1870) ” الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ” 1916 .
  • في التاريخ
˜1905-1895
فلسفة التاريخ .
لقد اهتم كل المثقفين الماركسيين الأوائل بنظرية المادية التاريخية : من الإيطاليين أنطونيو لابريولا (1904-1843) ” محاولات حول التصور المادي للتاريخ ” (1902) و بينيديتو كروشي ” المادية التاريخية والاقتصاد الماركسي ” (1901) ؛ ج. بليخانوف ” حول التطور الواحدي للتاريخ ” (1895) و ” دور الفرد في التاريخ ” (1898) ؛ ف. ميهرينغ (1919-1848) ” عن المادية التاريخية ” (1893).
1945-1920الثورة الروسية ، انطلاق الأممية الشيوعية الثالثة (1943-1919) . فشل الثورة الألمانية (1923) ، الستالينية ، تصفية المثقفين الروس وظهور ” كتاب مقدس “. إنشاء الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم الثالث ؛ بآسيا (الصين ، الهند ـ الصينية ، أمريكا اللاتينية …) . المثقفون الأوربيون يكتشفون الماركسية (بداية رابطة مالرو الثقافية ، أ. جيد ، أراغون ونيزان …).
19701920˜مدرسة فرانكفورت
تيار الفكر هذا سيولد بألمانيا من طرف فلاسفة كماكس هوركهايمر (1973-1895) ، ثيودور أدورنو (1969-1903) ، والتر بنجمان (1940-1892) ، هربرت ماركوز(1978-1898) ، إريك فروم (1980-1900) ، ثم بعد مدة طويلة يورجن هابرماس (المزداد سنة 1929 )وهو الوريث المركزي لهذه المدرسة .
وقد اقترح هذا التيار ” نظرية نقدية ” تريد أن تكشف خلف وهم العقل الكوني الخطاب المهيمن لفعالية ولخبرة وإيديولوجيا مستلبة . إن العقل الحديث سيخفي بالفعل مصالح التكنوقراط والرأسماليةوالبيروقراطية التوتاليتارية .
ه. ماركوز (1979-1898) ينشر سنة 1963 ” إيروس والحضارة ” .
˜1975-1955
سوسيولوجيا الطبقات ، الشغل ، الدولة
لقد وسمت بشكل خاص سوسيولوجيا الطبقات الاجتماعية : ر. داهرندروف ” الطبقات وصراع الطبقات في المجتمع الصناعي ” (1975) حاول توسيع مفهوم الطبقات .
·وقد عبرت سوسيولوجيا الطبقات عن ذاتها بفرنسا في أعمال ب. بورديو ” الورثة ” و نيكوس بولانتزاس ” الطبقات الاجتماعية في رأسمالية اليوم ” (1974) .
·تأثير آخر في سوسيولوجيا الشغل ، ج. فريدمان و ب. نافيل نشرا معا ” موسوعة سوسيولوجيا الشغل ” (1962) ؛ هاري برافمان ” الشغل والرأسمالية الاحتكارية ” (1974) .
·السوسيولوجيا النقدية للحداثة والحياة اليومية : ه. لوفيفر (1991-1901) ” مدخل للحداثة ” 1962 ؛ أ. جيدنس ” الرأسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة ” 1971
  • في الاقتصاد
˜ 1970-1950 الرأسمالية الجديدة
نمو اقتصاد البلدان المصنعة والتشغيل التام سيجبران الماركسيين على التفكير في وجود مرحلة جديدة من الرأسماليـــة .
الاقتصادي البلجيكي إ. ماندل نشر ” رأسمالية العصر الثالث ” (1972) قبل أن يتساءل عن الموجات الطويلة للرأسمالية .
بالولايات المتحدة ب. باران (1964-1910) و ب. سويزي يتفرغان للتفكير في هذه الحقبة ” الاحتكارية ” الجديدة . بول بارانينشر” الاقتصاد السياسي للنمو ” (1957) ومعبول م. سويزي ” الرأسمالية الاحتكارية ، محاولة حول المجتمع الصناعي الأمريكي ” (1966) . بفرنسا سيطور بعض الاقتصاديين (ب. بوكارا ؛ ب. هيرزوغ ) في حضن الحزب الشيوعي أطروحة مشابهة لأطروحة رأسمالية الدولة الاحتكارية (CME) التي ستحقق مجدها في السبعينيات.
˜ إسطوغرافيا الثورة الفرنسية
لقد اتسمت بتيار ماركسي ويعقوبي مثله ج. مارتينيز (1932-1874) ؛ ج. لوفيفر (1959-1874) ؛أ. سوبول (1982-1914) ، وفي ما بعد لحق تأثير الماركسية بمدرسة الحولياتف. بروديل ؛ ج. دوبي … ).
1965-1945العالم منقسم إلى كتلتين :رأسمالية وشيوعية . الفكر الماركسي يتجمد في المذهب الستاليني الدوغماطيقي ، وفي نفس الآن ينخرط جيل من المثقفين في صفوف الشيوعية (وخاصة بفرنسا وإيطاليا) . الإشعاع الفكري للماركسية يصبح أثقل وزنا : وتلك حقبة رفاق الطريق الوجوديين (سارتر ، ميرلوبونتي) . لكن مع المحاكمات الستالينية (1948 ثم 1965 ) وموجة محو آثار الستالينية سينفصل بعض المثقفين عن الماركسية ، مثلا بفرنسا تم إنشاء مجلة (حجج Arguments ) ( ب. نافيل ، دوفينيون ، إ. موران)
˜1960-1945 ماركسية وجودية ؟ ..
ولو أنهم لم يكونوا في أي وقت من الأوقات ماركسيين فإن ج.ب. سارتر و ميرلو بونتي هم ” رفاق طريق ” باشرا حوارا نقديا مع الماركسية التي اعتبرت ” فكر عصرنا الذي لا يقبل التجاوز ” (سارتر ) ، ميرلو بونتي ، ” مغامرات الديالكتيك ” (1955) ، وسارتر ” نقد العقل الجدلي “(1960).
˜ علم نفس النمو
ل. فيكوتسكي (1934-1896) يباشر معر. لوريا ” إعادة التفكير في النظريات السيكولوجية على أساس القواعد الماركسية ” . في ” التفكير واللغة ” أقام نظرية علم نفس ـ ثقافية للحياة النفسية حيث يتعلم الطفل من خلال علاقاته بالوسط الاجتماعي .
  • في الأنثروبولوجيا
1975-1965. تشكل تيار أنثروبولوجي ماركسي بفرنسا حول م. جودوليي (أفق ، مسارات ماركسية بالأنثروبولوجيا 1973ك. ماياسو ؛ و. تيراي ؛ ب.ب.ري.
˜1970-1960نظرية التخلف
مدرسة التبعية : وهي ليست تيارا موحدا ولو أنها ذات استلهام ماركسي اللهم إلا عبر فكرة تحليل التخلف باستخدام ألفاظ مثل الاستغلال ، التبعية …. أندريه غوندر فرانك ؛ سمير أمين ؛ سيلزو فورتادو ؛ أ. إيمانويل ، ” التبادل اللامتكافئ ” (1969) .

الماركسية البديلة

وإذا ما ورثت حركة العولمة البديلة شيئا من هذا ، فهو التكاثر والتعدد واللاحتمية الفلسفية ونزعة الانتقاء السياسي العائدة لبدايات الاشتراكية.

الماركسية البديلة

  • بقلم : لوران جوفران
  • عن: النوفيل أوبسيرفاتور( عدد استثنائي ) 

طيف يغشى موائد العشاء بالمدينة : إنه طيف العولمة البديلة .إنها اللازمة التي نسمعها في المؤسسة التي تعكر صفوها جراء هذه الهجومات على سياستها وامتيازاتها بشكل لا يعرف الانقطاع : لقد ماتت الشيوعية ، وهاهي ذي العولمة البديلة تريد أن تبعثها من جديد ، والبرهان على ذلك ؟ .. هو أن حركة بورتو أليغري حركة معادية للرأسمالية ؛ فهي ترفض السوق وتنتقد الشركات المتعددة الجنسيات والتبادل الحر بل وحتى البورصة ، إنها تريد تنظيم الفقراء والمنبوذين في حركة سياسية عالمية معارضة لـ ” منطق البضاعة ” ؛ وهي بذلك وريثة للماركسية وإذن وريثة لتوتاليتارية الشرق ، إنها آخر أحفاد العجوز ماركس ، العولمة البديلة إذن هي ” ماركسية بديلة ” ، فالغوث الغوث !إننا نجد في نصوص الآلاف المؤلفة من الجمعيات المتحالفة في كنف حركة بورتو أليجري تحاليل تتميز بالمبالغة واقتراحات طوباوية وانتقادات جذرية ، ونحن نشهد بها غالبا انبثاقا للاحتجاجات القديمة لدى الحركات العمالية في القرنين الأخيرين . وتلك مظاهر خادعة تتناسى جوهر القضية ولبها ، إلا أن الأكيد هو أن حركة العولمة البديلة ولدت من احتجاجات القرن 19 عينها . لقد شعرت الأسواق والصناعة الكبيرة بعد سقوط الحائط في التسعينيات التي ستظل سنوات التراجع الكبير لليمين العالمي بتحررها من أي عائق؛ فقد تم اجتثاث الشيوعية واصطف اليسار الإصلاحي في صف برنامج حذر ، وسطي قبل كل شيء ، ومتجسد في توني بلير أو بيل كلينتون ، وسرعت النخب القائدة للرأسمالية العالمية ، مستندة في ذلك على ثورة معلوماتية بدت لا تقبل المقاومة ، تنفيذ برنامج تم تحديده 15 سنة قبل ذلك من قبل مارغريت تاتشر ورونالد ريغان . لا شيْ بدا أن بمستطاعه الوقوف في وجه التوسع اللامحدود للبضاعة والمنافسة وأخلاق المال الوحشية ، وقد صنعت حركة العولمة الليبرالية بشكل لا يمكن تلافيه معارضتها الخاصة بفعل قسوتها وإرادتها في إسقاط أصناف الحماية التي تم انتزاعها منذ قرنين من قبل المأجورين واحدة تلو الأخرى . سيقال إن هذه الحركة الجدلية للاقتصاد والمجتمع التي أدت إلى احتجاج آخر وجديد على الرأسمالية وضدها يكشف عن نهضة ماركسية معينة وانبعاثا جديدا لها ، وسينضاف إلى ذلك أن منشطي حركة العولمة البديلة هم في الغالب قدماء أعضاء المنظمات الشيوعية . لكنهم في كل الأحوال من قدماء الماركسيين ؛ ومناهضتهم للرأسمالية وانتقادهم للإيديولوجيا الليبرالية وأصولهم السياسية المختلفة لا تلصق بهم صفة الماركسيين ، اللهم إلا إذا كنا نعتقد أن كل اشتراكي هو بالتعريف ماركسي . لنعد إلى أصول الاشتراكية : فالماركسية ليست إلا أحد فروعها ، إنها طبعتها الأكثر حبكة (سبكا ) والأكثر منهجية وأخذا بالتلازم المنطقي، ولكنها أيضا إحدى أكثرها مذهبية وصلابة وأكثرها دينية في العمق . وبجانبها تطورت كل أصناف التيارات الأكثر تحررا أو طوباوية أو أكثرها إصلاحية . وبعدها قام عدد من الأتباع بتليين العقيدة ومراجعتها أو مناقضتها ، اللينيون منهم في المقام الأول ثم الستالينيون . وإذا ما ورثت حركة العولمة البديلة شيئا من هذا ، فهو التكاثر والتعدد واللاحتمية الفلسفية   ونزعة الانتقاء السياسي العائدة لبدايات الاشتراكية . بيد أن ماركس سبق له أن صارع طيلة حياته هذا المثقف الميهم والمائع وهذا الخليط من التقاليد وهذه المثالية الطوباوية وهذا الاعتدال البرنامجي . لنراهن : إن كارل العجوز المنبعث فجأة سيعلق بحنق على النصوص الهجينة المنجزة من قبل أصحاب العولمة البديلة ، إما لشطرهم ومهاجمتهم أو الاستهزاء منهم جميعا . أمثلة : لقد تشكلت حركة العولمة البديلة والتأمت حول مطلب هو لها بمثابة المنارة الهادية ، شكل نقطة اصطفاف كل المناضلين في العالم بأجمعه ، وهذا المطلب هو فرض ضريبة على حركات الرساميل سميت ” ضريبة توبين : . إن كارل العجوز العائد إلينا لن يتمالك نفسه من الضحك الصاخب ؛ فزيادة على أن اقتصاد توبين سيوصف بأنه عدو لا بد من الإطاحة به فورا لأنه كينزي ، والكينزية بالضبط هي نظرية تم ابتكارها لمواجهة الماركسية من خلال إصلاح الرأسمالية من الداخل ، فإن مؤلف البيان الأكثر شهرة في العالم سيرى في هذا الإصلاحي المعلن علامة مميزة على الخيانة ؛ فتضريب حركات الرساميل بنسبة مائوية جد ضعيفة يعني تقوية النظام ، يعني تناسي أن الحركة العمالية مطالبة لا فقط بالوقوف في وجه شطط السوق وإنما مطالبة أيضا وبالأخص باستهداف قلب النظام ومنطقه العميق . وهذا المنطق هو بحق وحقيق استغلال العمل الناهض من حركة تثمين الرأسمال عن طريق اغتصاب فائض القيمة ، لذلك فالتلويح بهذه الضريبة البئيسة وتغليف المطالبة ببلاغة مبهمة وملتبسة تتحدث عن ” تبضيع العالم ” و ” العولمة الليبرالية ” ، في حين أن المقصود هو التناقض الداخلي للرأسمالية ومصادرة فائض القيمة ، يعني تضليل الحركة العمالية وتحويل المناضلين في أحسن الأحوال إلى أخوات الصدقة وأعوان للرأسمال في أسوأ الأحوال .” هناك عالم آخر ممكن ” يقول أصحاب العولمة ، وتلك صيغة سديمية وغائمة كما سيقول كارل مقاطعا ؛ فزيادة على أن التعبير ” عالم آخر ” تعبير تفوح منه حسب الاختيار رائحة كنسية أو الموزيك هال وأرواحها الضاربة ، فإن في النعت ” ممكن ” شيء ما من المثالية والسذاجة . وعندما أضاف جوزي بوفيه بأنه يتوجب أن نقول ” عوالم أخرى ” بدل عالم واحد حتى يبقى أمام الديمقراطية إمكانية اختيار ما هو ممكن ، فقد برهن على أنه نسي كل شيء عن المادية التاريخية ؛ فالعالم الآخر المتحدث عنه هو المجتمع الاشتراكي الذي سيعقب المجتمع الرأسمالي طال الزمان أم قصر . إن الماركسية ” لا تطبخ طناجر المستقبل ” بل تطبق منهجها العلمي في وصف تناقضات الواقع التي ستولد بشكل لا محيد عنه ، عن طريق العنف أو القانون ، عالما جديدا ، وهذا العالم الآخر ليس ممكنا وإنما هو ضروري . يجب توحيد وتجميع الذين هم ” بدون ” يقول مناضلو بورتو أليغري ؛ أي الذين هم بدون شغل وبدون سكن وبدون أرض ؛ فهم معذبو الأرض الجدد ، إنهم لا شيء اليوم وسيكونون غدا كل شيء . ترهات استراتيجية ، سيقول كارل مزمجرا ؛ فالبدون هم بشكل أساسي غير منخرطين في العملية الإنتاجية ، بيد أن التناقض الأساسي يتموقع في قلب النشلاط الاقتصادي ، هذا التناقض القائم في ما بين المستغلين والمستغلين (بفتح الغين ) ، في ما بين البورجوازية والبروليتاريا . وأولى الأولويات هي تشكيل أممية من الشغالين وليس من شبكة عالمية العاطلين ؛ إذ أن البدون يشكلون في غالبيتهم ما ندعوه في اللغة الماركسية ” البروليتاريا الرثة ” والتي ” لن تكون قادرة على فعل أي شيء آخر سوى الجلوس على مؤخرتها ” ، تجميع وتوحيد ” البدون ” هو شيء مفيد بالنسبة لكهان الرعية ، أما الثورة فهي شيء آخر تماما .لا بد من احترام الطبيعة ، يقول أصحاب العولمة البديلة ، كما أن التحكم في التقدم العلمي وتنظيم ” تنمية قابلة للدوام ” من شأنه إبطاء نمو الإنتاج . غباء تاريخي سيقول كارل منفجرا في وجوهنا ؛ فالبورجوازية تحول العالم وتغيره ، ومن ثمة تقيم الشروط التاريخية لاختفائها الذاتي باعتبارها طبقة ، وإبطاء هذه الحركة معناه جعل عجلة التاريخ تدور في الاتجاه المعاكس . إن العلم والتقنية هما نافعان بشكل مضاعف ومزدوج : فهما من خلال تطورهما يعمقان التناقضات في ما بين قوى الإنتاج والشروط الاجتماعية للإنتاج أي علاقات الإنتاج ، ويلازمان من ثمة اللحظة التي سيعقب فيها نمط جديد للإنتاج النمط القديم ، إنهما يضاعفان السلطة المستقبلية للمجتمع الشيوعي على الطبيعة التي ستمكنه بفعل الازدهار الكبير من الانتقال من مبدأ للتوزيع إلى مبدأ آخر ، فكيف يمكننا بدون العلم والصناعة تعويض الأكسيومة : ” لكل حسب عمله ” بالقاعدة الشيوعية ” لكل حسب حاجاته ” ؟ .. إن حركة العولمة البديلة ، سيضيف كارل ، مجتاحة من قبل الإيكولوجيين الورعين والفلاحين المتطيرين والمؤمنين بالخرافة ، وهؤلاء هم الذين ينشرون أفيونا جديدا للشعوب هو ديانة الأرض التي هي مدمنة أفيون مثلها في ذلك مثل ديانة السماء .وبإمكاننا أن نستمر في سرد الأمثلة ، وهذه التمرين يقود نحو استنتاج واضح وهو : أن المرونة الفكرية والنضالية في حركة العولمة البديلة هما على طرفي نقيض من التماسك والصرامة الماركسيين . لقد ولد بورتو أليغري من عودة أصناف الشطط الرأسمالية ، ولكنه لا يؤذن بعودة مبالغات الشيوعية وشططها ، إنه يحيلنا بالفعل على حقيقة الاشتراكية التاريخية والتي هي أكثر غنى وأكثر حرية وتلألِؤا من حكايا الماركسية الحزينة والدموية التي أصيبت بالضمور من قبل اللينينية وتحولت إلى قمع توتاليتاري . إن هذه العودة إلى الأصول تحمل في ذاتها بطبيعة الحال كل أصناف السذاجة والأفكار اللاواقعية ، لكنها تستحق أن تحتفظ بالإرث الفكري لحقوق الإنسان والحرية كمكسبين لها .

******************

* لوران جوفران هو مدير تحرير مجلة ” النوفيل أوبسيرفاتور ” آخر كتاب ظهر له هو ” روح نابوليون” غاليمار 2003.

الشيوعية الآسرة

كيف استطاعت الثورة الروسية بديكتاتوريتها أن تشكل مرجعية كونية خلال الجزء الأكبر من هذا القرن ؟ .. وكيف افتتن بها المثقفون واستسلموا لها رغم وضوح الوقائع ؟

الشيوعية الآسرة

  • حرب 14 / 18 أم الشيوعية والفاشية ؟ ..

  • أكتوبر والعاطفة الثورية.
  • الثورة الدائمة ببلد واحد.
  • انتصار ستالين.
  • هل يمكن تصور الإيديولوجيا بدون تنظيمات.

بقلم : جان كلود ـ بوربالان
عن : مجلة العلوم الإنسانية ، رقم 63 يوليوز 96 .

لم تتوقف الشيوعية عن أسر المثقفين الفرنسيين ، وفرانسوا فوري في كتابه ” ماضي وهم ” يعرض مكامن قوة إيديولوجية مستلهمة من ديكتاتورية المذهب اليعقوبي الفرنسي لسـنة 1793 .

**********************

  • في أكتوبر 1917 أخذ الحزب البولشفي بزمام السلطة عن طريق القوة في وضعية انهيار لجهاز سلطة الدولة ناجمة عن الهزيمة العسكرية وسقوط القيصرية . وسيعوض هذا الحزب الذي أصبح تروس جهاز الدولة السوفياتية ومولدها ضعفه الذاتي ( فلم يكن يضم في صفوفه سوى 24000 عضوا عند استلامه السلطة ) بالصلابة التي تسمح بها الإيديولوجيا الماركسية . ولم يمض وقت طويل حتى سميت هذه الإيديولوجيا بالمذهب اللينيني من خلال الاهتمام بالعناصر التاكتيكية والاستراتيجية المرتبطة باستلام السلطة بروسيا .
  • فكيف استطاعت الثورة الروسية بشيوعيتها الفتاكة بالأرواح وديكتاتوريتها غير المسبوقة أن تشكل نقطة مرجعية أو دفّاعة كونية أيضا خلال الجزء الأكبر من هذا القرن ؟ .. لماذا وكيف استسلم عديد من المثقفين مأسورين ومأخوذين بالمذهب الشيوعي السوفياتي رغم وضوح الوقائع ؟ .. هذه أسئلة ضمن عديد من الأسئلة حاول فرانسوا فوري أن يجيب عنها في مجلد سميك ظهر في بداية سنة 1995 :»ماضي وهم ، محاولة بخصوص الفكرة الشيوعية للقرن العشـرين«(1) .
  • ولكي نستوعب جيدا قوة ” الوهم الشيوعي ” يجمل بنا أن ندرجه مدة زمنية طويلة وأن نموضعه في علاقته التفاعلية مع الأفكار الكبرى الفاعلة والرائجة في المجتمع الغربي منذ عدة قرون . فانطلاقا من القرن 18 شكلت البورجوازية ؛ أي ” الإسم الآخر للمجتمع الحديث ” الفئة الاجتماعية الحاملة للواء قيم كونية . وهي لم تتحدد لا عن طريق السياسة والمواطنة كما في العصر القديم ، أو عن طريق الأصل الأسري والنسب كما هو الحال في المجتمعات الإقطاعية ، وإنما تحددت بالعكس من ذلك عن طريق الاقتصاد والعمل . وبوصف العمل خاصية أولية لكل إنسان فإن القدرة عليه تفترض حرية التصرف والمساواة وإزالة العراقيل الدينية أمام المبادرة والتصرف . إن الإنسان الحديث ديمقراطي بشغف وليبرالي ( أي مناهض لموانع حرية المبادرة ) ، والنموذج الأمثل للبورجوازية يتمثل في الاتفاق على حد أدنى من القواعد الميسرة لحرية المبادرة والفعل ، الباقي ـ الدين والأخلاق وغيرها ـ هي شأن خاص ما دامت وجهات النظر بصددها لا تعيد النظر في العقد المشترك .
  • وتتضمن هذه الحداثة وهذا الشغف بالديموقراطية تناقضا جوهريا يشغلها ويزودها بديناميكية لا تتوقف : » … إن فكرة تساوي البشر وكونيتهم التي تعلن البورجوازية أنها أساس لها ، والتي هي جديد إسهامها هي فكرة منفية بشكل ثابت جراء التفاوت واللامساواة في الملكية والثروات « . ومن زاوية النظر هاته فإن فكرة المساواة ” تشتغل كمتخيل للمجتمع البورجوازي ” لا يمكن بلوغه وتحقيقه بطبيعة الحال ، ولكنه أساس اتهام هذا المجتمع . إن مسار الثورة الفرنسية الصانعة حقيقة للمجتمع البورجوازي تضمن في ديكتاتورية روبيسبيير التعبير عن التنازع التعادلي و ” التوتاليتاري ” للمجتمع الجديـد . وهكذا ، فإن المواجهة التي تبلورت منذ البداية في أصل الثورة الفرنسية في ما بين المنادين بالمساواة والليبراليين ستسم القرنين التاليين .
“إن فكرة تساوي البشر وكونيتهم التي تعلن البورجوازية أنها أساس لها ، والتي هي جديد إسهامها ، هي فكرة منفية بشكل ثابت جراء التفاوت واللامساواة في الملكية والثروات”
  • إن رد الفعل المنادي بالمساواة ، والذي سيتضخم بقوة طوال القرن 19 بأوربا سيطالب بالثورة الفرنسية ، وبالأخص بحقبتها الديكتاتورية . الاشتراكية أولا ثم الشيوعية التي تشكل جزءا منها ستعتمدان معا هذه الحقبة كمرجعية لهما . أما البورجوازية الفرنسية ومعها عدد من المالكين بأوربا وخارجها فستتحرك في رد فعل على النقيض من ذلك ضد ” المنادين بالاقتسام ” المصدومين نفسيا بفعل ذكرى الثورة . وبالمقابل ، وبالنسبة للأنجلو سكسونيين ، فإن المذهب النفعي استطاع أن يشكل ” ضمانة فلسفية للرابطة الاجتماعية ” . وقد قدرت عدد من الشرائح الأوربية الحاكمة انطلاقا من القرن19 أن الديمقراطية الليبرالية الحديثة تعرض المجتمع لخطر تحلل دائم كنتيجة للنزعة الفردية التي تؤدي إلى تذرير أفراد المجتمع ( تحويله إلى ذرات فردية ) ، ونتيجة عدم اهتمامهم بالشأن العام وإضعاف السلطة محدثة بذلك الضغينة والبغضاء في ما بين الطبقات .
  • وما عدا إنجلترا وأمريكا فقد شهدت أوربا بذلك طوال القرن19 ازدهار غضب ثوري مناهض للبورجوازية والرأسمالية شكلت الماركسية وادعاءاتها العلمية أحد مرتكزاته الأساسية .

1.حرب 14 – 18 أم الشيوعية والفاشية؟..

  • لقد استكانت وهدأت العاطفة الثورية في نهاية القرن 19 وفقدت فكرة ” المساء الأكبر ” المسيحية ؛ فكرة الإطاحة بالرأسمالية ، الميدان حتى لدى ماركسيي الأممية الثانية : بيد أن حرب 18-14 ستنتهي بظهورها ثانية بصيغة مزدوجة : شيوعية وفاشية ؛ وذلك بنسب لم يتم بلوغها أبدا في السابق . لقد زعزعت هذه الحرب الواقع السياسي بشكل لا يصدق ، وكذا الحدود والعقليات والأخلاق حتى لدى الذين ظلوا على قيد الحياة . وسيتمخض الصراع عن ميلاد الشيوعية والفاشية كصيغتين لرد الفعل على الحرب والديموقراطية .
  • وستشتغل الثورة الروسية كيوتوبيا معبئة قوية : فما دامت المصداقية قد سقطت عن النزعة الوطنية ” الديموقراطية ” ، فإن الثورة الاجتماعية المفروض أنها انطلقت بروسيا وفرت في ذلك الحين الأسطورة الكونية التي ستلتصق بها فئة من قدماء الأحزاب الاشتراكية ـ الديمقراطية وعدد من المثقفين . وستجدد الثورة الروسية العهد على المستوى الميثولوجي وبدرجة أعظم ضخامة وكبرا إلى جانب مع ابتكار الثورة الفرنسية . وكهذه الأخيرة فإنها ستتأسس على ” نمط يعطي الأولوية للتغيير وعلى فكرة الإرادة الإنسانية وعلى تصور مسيحي للسياسة ” .

2.أكتوبر والعاطفة الثورية

  • إن الحرب بالنسبة لفرانسوا فوري وفرت أيضا ظروف ميلاد الفاشية التي ستتبلور كرد فعل خصوصي ضد الديمقراطية ، وكإضافة لرد الفعل ذي النزعة الكونية لدي البولشفيكيين . ومع ذلك ففي ما بين هاتين ” النظريتين السياسيتين العلمانيتين ” فإن تفوق الماركسية اللينينية ارتبط في المقام الأول بنظرية ماركس ( التي لا تقبل أن تعادل مع غيرها حسب فرانسوا فوري ) وكونيتها التي رفعتها بذلك إلى مصاف الديمقراطية . أما الفاشية فلم تستدع من جهتها لتكسير النزعة الفردية البورجوازية ” إلا شرائح من الإنسانية ” : الأمة ، السلالة . وفرانسوا فوري يقدم هنا أحد مفاتيح تعلق عدد من المثقفين بالشيوعية ، وذاك تعاطف لم تتمتع به الفاشية ، وهو يستند لهذا الغرض على مسارات الذين بددوا أوهام الشيوعية : من بوريس سوفارين وبيير باسكال ، وهما مناضلان من مناضلي الفترات الأولى ، إلى مثقفي الثلاثينيات مثل ه.ج ويلز أو أندريه جيد اللذين أدركا من خلال مساراتهما وكتاباتهما حقيقة الشيوعية . وقد أخذ في حسبانه أيضا بعض المؤمنين بها مثل جورج لوكاش الذي تفحص حياته النضالية وتراجعاته . كل هذا أعطى تركيبات ثاقبة مثل هذا التركيب : ” . . . في معرض المعتقدات السياسية التي تحتل مكانة شاسعة في فكر المعاصرين شكلت الشيوعية مشروبا روحيا قويابشكل خاص من حيث محتواه الإيديولوجي ، لا فقط بفعل مقاومته للتجربة : فتلك سمة مشتركة لجميع القناعات المناضلة والمتمنعة بشكل كبير عن اختراق الوقائع لها ، و لا بفعل طول عمر استثنائي : فالإيمان الشيوعي ينفقد أو يتكسر أكثر في الغالب من أي معتقد سياسي آخر إذا ما اعتمدنا كمعيار للحكم عليه الملايين من قدماء الشيوعيين الذين أنتجهم هذا القرن . و ما تمتلكه الشيوعية بشكل خاص من سمو ورفعة من حيث درجة الاستثمار السيكولوجي يتأتي من كونها تبدو موحدة وجامعة لكل من العلم والأخلاق ، وهما نظامان من نظم العقل مستخلصان من عوالم مختلفة ومتضايفان بشكل معجز . وعندما يعتقد المناضل أنه ينجز قوانين التاريخ فإنه يعارك أيضا أنانية العالم الرأسمالي باسم كونية البشر ، إنه يعلل عمله بضمير صاح من نوع جديد مشاد به كفضيلة مدنية ومماثل مع ذلك للنزعة الدنيوية البورجوازية التي يكرهها : فلم يعد لقلق العيش من سيطرة عليه . [ .. ] وقد اعتقد كل الشيوعيين بشكل مستقل عن استدلالهم وعن مساراتهم أو يعتقدون أنهم يحيون مقدما حالة تصالح الإنسان مع ذاته عينها ” ، ويعتقد فرانسوا فوري أن لوكاش بالضبط ” انطلاقا من هذا التطمين الإلهي كلية لم يستطع مطلقا هجران الألم واللذة ” .
  • لقد أمسك الحزب البولشفيكي بزمام السلطة باسم الطبقة العاملة في روسيا المهزومة عسكريا ، والفكرة السائدة حينذاك كانت هي أن هذه ” الحرب ـ الانتحار ” ستنجب بالضرورة ثورة اجتماعية . وقد تحدث لينين متنبئا ـ بشكل خاطئ ـ بما يلي (2) : »إن عشرات الملايين من الجثث أومن مشوهي الحرب المخلفين من طرف حرب شنت من أجل تحديد إلى أي فريق ـ إنجليزي أو ألماني ـ من قطاع الطرق الماليين سيعود الجزء الأعظم من الغنيمة ، ثم إن معاهدتي السلام الاثنتين تفتح الأعين بسرعة لا سابق لها لملايين وعشرات الملايين من الناس المقموعين والمسحوقين والمخدوعين والمستغفلين من قبل البورجوازية . وكعاقبة للدمار الكوني الناجم عن الحرب فإننا نرى بذلك وهي تكبر أزمة ثورية عالمية مهما كانت مفاجئاتها وتحولاتها طويلة وشاقة فإنها لا يمكن أن تنتهي بأيشكل آخر ما عدا عن طريق الثورة البروليتارية وانتصارها     «. أكيد أن الكبوات بألمانيا وهنغاريا واستيلاء الفاشيين على السلطة بإيطاليا أشارت بسرعة إلى لثورة العالمية لن تقع ، ولكن لينين وخلفاءه سيتمادون في التشبث بهذا الاعتقاد .
  • لكن الثورة الروسية ، كما يذكر بذلك فرانسوا فوري ، كانت أيضا آسرة بفعل أسباب أخرى غير تعميمها الضروري الوشيك ؛ ففي فرنسا على سبيل المثال أحالها أصلها اليعقوبي جذابة بداخل الدوائر الاشتراكية وحتى لدى رابطة حقوق الإنسان . كثير من الناس ، إن لم يكن الجميع ، صفح عنها باسم الضرورة التي وجدت الثورة الفرنسية ذاتها بداخلها لمواجهة أعدائها ـ وتلك أسطورة مؤسسة لليسار الاشتراكي والجمهوري ـ . وبرنسا خاصة تم اعتبار الثورة الروسية مماثلة للثورة الفرنسية ، ولم يتم أبدا إجراء أي فحص حقيقي للواقع السوفياتي ، وهذا يفسر فضلا عن ذلك لماذا لم يمسس عرض الوقائع القناعات التي استندت على مبررا وتصورات أخرى .

3.الثورة الدائمة ببلد واحد

  • حزب لينين بالسلطة ، وهو يريد تأسيس مشروعيته على ” معرفة بقوانين التاريخ ” لا على انتخاب من طرف الشعب ، وبذلك تمت إعادة التأكيد على ديكتاتوريته ، إن لم تكن تضخمت عندما انتهت ظروف الحرب سنة 1922 . وقد شكل ستالين واحترف ديكتاتورية لم يكن لفعاليتها القاتلة سابق انطلاقا من انتصاره النهائي في حضن الحزب البولشفيكي سنة 1927 . وخلال ما يقارب أربعين سنة ستتغذى ديكتاتورية الحزب التي تزايدت شراستها على الخوف من الاعتداء الإمبريالي أولا ثم الفاشي في ما بعد . وستتدخل هذه الأخيرة فضلا عن ذلك سنة 1941 بأمر هتلر الحليف اللحظي للاتحاد السوفياتي والذي لم يكن ستالين يعتقد حينذاك أن سينقلب ضد روسيا . أما بالنسبة للباقي ، فقد استخدم الوهم المتخيل من أجل التنشيط الدائم للديناميكية الثورية . وقد شكل الاعتداء الخارجي بصيغته التآمرية واستعداداته الحربية المفتوحة أو السرية الخيط ” الأحمر ” لسلوك الحزب البولشفيكي في ما يتعلق بعمليات التطهير الداخلية وذبح الشعوب ونفيها كما هو الشأن بخصوص أهداف بناء المجتمع الجديد .
  • كل سياسة ستالين وجهت لتحاشي وهن السيرورة الثورية ؛ فاستدعى شبحا ترميدوريا روسيا ( الترميدوريون : جماعة من النواب اتحدوا ليضعوا نهاية لديكتاتورية روبيسبيير ، والترميدور أيضا هو الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية على عهد الثورة الفرنسية ) بالانطلاق في مزايدة منهجية ، لكنها مكيفة بالإيديولوجيا الثورية : فمن أجل تحاشي الثورة المضادة يجب الاستمرار والإمعان في الثورة . والأكثر أسرا وجاذبية حسب فرانسوا فوري ليس فقط قدرات الرعب التي توصلت إليها ديكتاتورية الحزب الشيوعي (3)وإنما استمرار عملية الانخراط أو التعاطف وخاصة انخراط وتعاطف المثقفين . وكشهادة على ذلك المناظرة المنظمة من طرف رابطة حقوق الإنسان سنة 1973 في موضوع محاكمات موسكو التي انتهت المناظرة إلى سلامة إجراءاتها . وبفضل كتابات منشقين وشهادة أندريه جيد أمكن أن نعرف حقيقة وضعية التطهير التي كشفت عنها محاكمات الثلاثينيات والتي نددت بها كتب ككتاب أنتي سيليغا سنة 1938 والمعنون ب: ” في بلد الكذبة الكبرى ” . ومع ذلك فإن الأساسي في ردود الأفعال المدافعة عن الاتحاد السوفياتي في تلك اللحظة جاء من طرف التحالف المضاد للفاشية ( المثقفون الشيوعيون ـ أراغون ، نيزان ، وورمسر ـ المتعاطفون ورفاق الطريق ـ رومان رولان ، بول لانجفان ، بيير جوليو – كوري ، مالرو ـ كانوا حينها قليلي العدد ) .
  • وقد فصل فرانسوا فوري أيضا مواقف السورياليين ؛ لدى إيمانويل مونيي ومثقفي اليسار الكاثوليكيين لدى جورج باطاي أو كتاب مأخوذين بالمذهب التوتاليتاري كدريو لاروشيل . ويؤشر منذ البداية على موقف ريمون آرون الأصيل : ” على مستوى الفكر الفكر متيقظ اتجاه الجدة الجذرية في ثورات القرن العشرين وحامل لفهم للتاريخ يدين أكثر لفيبر أكثر مما يدين للترجمة الديمقراطية الثورية الفرنسية ، وعلى المستوى السياسي ديمقراطي أكثر منه جمهوري ، إصلاحي بالزائد بالنسبة لليمين ، وأكثر معاداة للخطاب المضاد للفاشية بالنسبة لليسار ، وبالنسبة للإثنين ثاقب البصيرة بالزائد بالنسبة للحرب القادمة ” .
  • إن موقف المثقفين الأوربيين ( الفرنسيين في غالبيتهم ) اتجاه الشيوعية أجاب على ظهور الفاشية والأوجه المتقلبة ، ولو أنها كانت دائما متماسكة ، للسياسة التي انتهجها ستالين . وستشكل الحركة لمضادة للفاشية ، ما عدا خلال المعاهدة الألمانية ـ السوفياتية من 1939 إلى 1941 خط معركة أساسي للحركات الشيوعية . ولكن عم كان يدور الحديث ؟ .. يذكرنا فرانسوا فوري بأنه في اللغة الشيوعية لتلك الفترة وخلال فترات طويلة وفي مناسبات عديدة اعتبر كل أولئك الذين لم يكونوا شيوعيين فاشيين أو ” عملاء ” لهم : وبالأخص الاشتراكيين ـ الديمقراطيين ، ومن عايش إلى حدود سنة 1935 إقامة سياسة الجبهات الشعبية ، فإن عقيدة الكومينتيرن كانت تتمثل في أن الفاشية تشكل تمهيدا للثورة البروليتارية في الوقت نفسه الذي تشكل فيه آخر درع واق للبورجوازية . وانطلاقا من سنتي 35-1934 ، ولأسباب جيوبوليتيكية وداخلية بالاتحاد السوفياتي لايفصله فرانسوا فوري ، كان الحدث هو أن السياسة تغيرت وأن السياسة المضادة للفاشية اتخذت هيئة الجبهات الشعبية . السبب الأساسي الذي تم شرحه مطولا في فقرة حول الحرب الإسبانية كان هو التقليل من التهديد الواضح منذ ذلك الحين والذي أثقلت به ألمانيا النازية على كاهل روسيا من خلال ” شلها ” عن طريق متابعة الحرب المدنية من جهة وتقوية إرادة دخول المعركة لدى الديمقراطيات من جهة أخرى .

4.انتصار ستالين

  • سيمحو انتصار الجيش الأحمر سنة 1945 خزي المعاهدة الألمانية ـ السوفياتية لسنة 1939 ، كما لو أن الأمر قد تم بمعجزة ، وسيمكن هذا الانتصار من الانتشار الأقصى للشيوعية بفضل الاحتلالات العسكرية . وقد أصبحت معاداة الفاشية منذ ذلك الحين قاسما مشتركا بين الديمقراطيات والشيوعية ، وهذا سيشكل بالنسبة لهذه الأخيرة وسيلة إغراء إضافية ؛ وذلك لأنها تزعم أنها علاج جذري ـ لكونها مضادة للرأسمالية ـ لأشكال الجنوح الفاشي لما بعد الحرب التي أدانتها غالبا . الرعب الناجم عن الوحشية النازية ، والاندماج في معسكر المنتصرين سيشكلان مبررات إضافية كي لا تقدم الشيوعية السوفياتية لأحد ، وتستطيع على العكس من ذلك أن تتطور : ” في حالة ضعفه كان الاتحاد السوفياتي محبوبا كقضية مهددة ، أما في حال قوته فهو يجامل بنفاق كقدر لا يمكن تحاشيه ” ، لقد كانت الإيديولوجية الشيوعية تحيا حينها أزهى أيامها .
  • خر وتشوف ، محو آثار الستالينية ، ثم احتضار الاتحاد السوفياتي البطيء ، لم تثر كلها إلا قليلا من اهتمام فرانسوا فوري الذي لم يخصص لها إلا عشر صفحات . إلا أنه يشير مع ذلك إلى موقف الأنتلجنسيا : ” . . . إذا كان الاتحاد السوفياتي قد فقد بشكل نهائي خلال العشريتين الأخيرتين من وجوده امتياز النموذج الكوني المفرط ، فإنه يظل محميا بفعل ما تبقى نسبيا في كل مكان من وعده الأصلي . إن إفلاس طموح أكتوبر المعترف به من طرف الجميع لم يطفئ كل الطموح الشيوعي ” .

5.هل يمكن تصور الإيديولوجيا بدون تنظيمات

  • إن المؤاخذة الكبرى التي يمكن توجيهها للكتاب تتعلق بالاستقلال الذاتي الذي يقبله فرانسوا فوري للإيديولوجيا في علاقتها بالتنظيمات الحاملة لها . إن استخدام كتابات وأفعال المثقفين كمقياس أساسي لقياس قوة الوهم والتمثلات الشيوعية شيء يدعو للاستغراب . والسؤال الذي يظل مطروحا على طول الكتاب هو : هل يمكننا أن نفهم تاريخ الشيوعية بدون أن نتساءل عن طريقة اشتغال التنظيمات ـ والحزب البولشفيكي على رأسها ـ و لا أن نتساءل عن الروابط التي أقامتها في ما بينها الحركة العمالية والنقابية والعقيدة الشيوعية ؟ .. إن الجواب هين ؛ نعم إذا ما حكمنا عن طريق خصوبة القصد الذي تمثل في إعادة تسجيل الشيوعية والفاشية في التاريخ الطويل لظهور الديمقراطية واللتان شكلتا معا ردود فعل رهيبة عليها . لا إذا ما تعلق الأمر بفهم المسار الملموس لتغيرات التوجه السياسي أو بتفسير الإيديولوجيا في ما وراء ستالين وامتداداته في جهات عديدة من العالم . إن التحليل الأكثر تفصيلا لاشتغال قوة عطالة الحزب الشيوعي على سبيل المثال ستكون نافعة في هذا المنظور . إن كوني الشيوعية هو بكامله ، بالنسبة لفرانسوا فوري ، داخل حلمها المسيحــي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :
(1 روبير لافون ـ كالمان ـ ليفي ، 1995 . أنظر أيضا ” الشيوعية والفاشية في القرن العشرين89 ، مارس ـ أبريل 1996 . ” لوديبا ، رقم
(2 مقدمة طبعة ” الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية أرمان كولان ، 1995 . ” مذكور من قبل مارك نوشي ، ” القرن العشرون “
(3 هذه القدرة كانت مع ذلك استثنائية إذا ما صدقنا جي ريشار ما دام مجموع الخسائر البشرية بالاتحاد السوفياتي ما بين 1953-1918 ، وبتقديرات دنيا ، حاذى ما بين 36 و 40 مليونا … ( التاريخ اللاإنساني1993 ) . ، جي ريشار ، أرمان كولان ،

مهندسو الثورة

المصدر: مجلة العلوم الإنسانية

لقد حدد ماركس وإنجلز مفهوم الثورة انطلاقا من تحليل حقبتين ثوريتين: إحداهما سياسية (الثورة الفرنسية) والأخرى اقتصادية (الثورة الصناعية). ولأن ماركس شهد أحداث 1830 بفرنسا وأحداث 1848 بأوربا، فقد حدد في البيان الشيوعي الشروط الضرورية لنجاح الثورة: من جهة، معرفة موضوعية بالأسباب الحقيقية وراء بؤس البروليتاريا، ومن جهة أخرى، وجود منظمة سياسية لإيقاظ ضمائر المقهورين. وفي المرحلة الثورية يقترح ماركس الإقامة المؤقتة لديكتاتورية البروليتاريا، لكن بدون أن تتمدد أكثر من اللازم. وستشكل هذه النظرية الماركسية بخصوص المسعى الثوري موضوع عديد من التأويلات وإعادة التقييم تبعا للسياق الاجتماعي، الثقافي والسياسي. إذن فبدل الحديث عن الماركسية بالمفرد، يستحسن جدا الحديث عن الماركسيات من زاوية النظر السياسية. وإذا كانت هذه الماركسيات تتفق على ضرورة تجاوز الرأسمالية، فإنها تختلف بخصوص الوسائل الكفيلة بتسريع عملية التجاوز هاته.

الإصلاحيون:

لقد حاولوا الجمع بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية بالدخول إلى الاشتراكية بدون ثورة ولا ديكتاتورية البروليتاريا. وهذا التوجه الاشتراكي الديمقراطي تم تبنيه في حياة ماركس في ألمانيا من قبل فرديناند لاسال الذي أوصى سنة 1863 بالائتلاف في ما بين مختلف مكونات الحركة العمالية. وبعده سيوصي إدوارد برنشتاين بتحويل تدريجي للمجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، وهو ما أدى إلى نعته بأنه “مرتد” و”مهرطق” من قبل الماركسيين الأورثودوكسيين قبل أن يتم احتواؤه من قبل أكثرهم أهمية (كاوتسكي). في فرنسا، جعل الإرث الثوري لسنة 1789 قراء ماركس “الاشتراكيين” ينعطفون نحو نزعة إنسانية مثالية (جان جوريس، ثم ليون بلوم)، أو على العكس نحو تركيب في ما بين الماركسية والنزعة الفوضوية-النقابية (جورج سوريل). ووحده الحزب العمالي الفرنسي بزعامة جولس جيسد سينخرط في برنامج ماركسي تماما . بالنمسا ، ألهمت مسألة القومية الماركسية النمساوية حول أوتو بووير، بينما شكل الاشتراكيون مبكرا بالبلدان الأنجلو-سكسونية مكسبا للنزعة الإصلاحية. وسيلهم فشل الثورات التي حدثت بأوربا في نهاية الحرب العالمية الأولى (بألمانيا وهنغاريا) إصلاحيين آخرين، إن لم يكن رفضا للماركسية كما هو الحال لدى الإيطالي بينيديتو كروتشه. بعد الحرب العالمية الثانية، انخرطت الأحزاب الاشتراكية الغربية بشكل نهائي في النزعة الإصلاحية (التخلي بألمانيا عن الأفق الثوري من قبل الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD سنة 1957). وقد ابتعدت الأحزاب الشيوعية بدورها عن الدوغما: كنتيجةللتوافق التاريخي” في ما بين الحزب الشيوعي الإيطالي PCI والديمقراطية المسيحية (1977)، وتخلي الحزب الشيوعي الفرنسي PCF عن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا 1976 .

الماركسية-اللينينية:

وتنحدر من تأملات لينين حول إمكانية إطلاق سيرورة الثورة في بلد متخلف (كروسيا) أو مستعمر. ومن ثمة حدد لينين المنهجية الثورية في ما يلي: فضدّ النزعة العفوية التي دافعت عنها روزا لوكسمبورغ، أوصى لينين بتشكيل طليعة تجمع ثوريين متخصصين (الحزب البولشفيكي)، وحالما تتحقق الثورة تتم إقامة ديكتاتورية البروليتاريا. وباعتماد هذه الماركسية اللينينية كمرجع تشكلت مع الأممية الثانية (1919) الأحزاب الشيوعية ومن بينها الحزب الشيوعي الفرنسي PCF بفرنسا والحزب الشيوعي الإيطالي PCI بإيطاليا، وهما أهم التنظيمات الشيوعية الغربية. وستفرض الماركسية اللينينية ذاتها بوصفها العقيدة الرسمية لمختلف الأنظمة الشيوعية لما بعد الحرب إلى حدود سقوط جدار برلين، لكن هذه الماركسية الرسمية غطت في الواقع تنويعات مختلفة:

أولها الستالينية التي يمكن تحديدها على المستوى النظري باعتبارها محاولة لتكييف المشروع الماركسي مع الظروف الواقعية للاشتراكية بروسيا، وفي فترة ما بعد الثورة؛ فضدّ ليون تروتسكي الذي كان مناصرا “للثورة الدائمةاستدعى ستالين السياق العالمي (صعود الفاشية، “الحصار” من قبل البلدان الرأسمالية) من أجل تبرير متابعة التجربة الاشتراكية في بلد واحد؛

هناك ثانيا تنويعات الماركسية اللينينية التي ظهرت أساسا ببلدان أوربا الشرقية وآسيا كرد فعل على هيمنة النموذج السوفياتي، أو/و بفعل أشكال التهجين مع الثقافات الوطنية: الماوية، مذهب تيتو…؛

وهناك أخيرا الماركسيات-اللينينية بالبلدان النامية أو المستعمرة سابقا (إثيوبيا، الكونغو، أنغولا، بينين…) التي وفرت في ما وراء تنوعها نفس الامتيازات لنخبها الحاكمة: شبكة قراءة تبرر الصراع من أجل الاستقلال، ونموذج هو في نفس الآن نموذج للتنمية الإرادية وسلطة الدولة، و”خبرة عملية” في مجال قمعالأعداء الداخليين” وهيمنة الطبقة الحاكمة(1).

ثيولوجيات التحرير:

ظهرت بأمريكا اللاتينية في السبعينيات، وهي ترسخ تحالفا في ما بين المسيح وماركس. ومن خلال تبني شبكة القراءة الماركسية لوصف المجتمعات الأمريكية الجنوبية فقد حددت للفئات الأكثر فقرا من الساكنة الدور الثوري المسنود كلاسيكيا للبروليتاريا من طرف الماركسية الأوربية(2). ومن بين كل بلدان أمريكا اللاتينية انخرطت كوبا ونيكاراغوا وحدهما في السبل المستلهمة من الماركسية-اللينينية: مذهب كاسترو والنزعة الساندينية.

النزعة اليسارية:

إنها إسم جنس تحيل على تيارات جد متنوعة كالنزعة الفوضوية، التروتسكية، مذهب تشي غيفارا،… الخ، التي تطورت بالغرب خلال الستينيات والسبعينيات، كلها تتقاسم نفس ألفاظ وكلمات الماركسية المبسطة وتتقاسم بالخصوص إيمانا بـ” فعالية ” الثورة.

وإذا لم يعد المشروع الثوري يشكل بديلا ذا مصداقية لليبرالية، فإنه يبدو أنه لا زالت هناك أيام جميلة أمام معجم الألفاظ الماركسي: فخيبة الأمل المنسوبة لليبرالية ولسيرورة العولمة تنحو نحو إعادة تنشيط الخطابات النقدية الموجهة للرأسمالية في غياب أحلام المساء الكبير

 

*******************

(1)  زكي العايدي وأليي ، الاتحاد السوفياتي منظورا إليه من العالم الثالث ، كارطالا ، 1984.

(2) ميكائيل لووي ، الماركسية بأمريكا اللاتينية ، ماسبيرو ، 1980.

في الحاجة إلى ماركس

إحساس غريب بالحاجة إلى ماركس

بقلم : جان دانيال *

عن النوفيل أوبسيرفاتور (عدد خاص)

 

ماركس [ كارل ] فيلسوف واقتصادي ومنظر للاشتراكية الألمانية ( تريف 1818 ـ لندن 1883 ) وقد اكتشف من خلال استلهامه الديالكتيك الهيجلي ، مع نقده في نفس الآن لفلسفة التاريخ الهيجلية ، نقد الدين لدى فيورباخ والمذهب الاشتراكي لدى سان سيمون والاقتصاد لدى آدم سميث ، وبذلك بلور المادية التاريخية بشكل تدريجي ، أي النظرية العلمية لأي علم اجتماعي. هذا هو التعريف البيوغرافي الذي نجده في قاموس لاروس الصغير ، وهو تعريف جيد وممتاز يمكن أن يشكل موضوع تعليق ، لكنه أداة جيدة لتكوين فكرة أولية عن ماركس ، وفضلا عن ذلك فهو دليلنا في هذا العدد الخاص ( يقصد العدد الخاص من مجلة النوفيل أوبسيرفاتور ) .

بعد ذلك نلتحق بريمون آرون ” مراحل الفكر السوسيولوجي ” 1976 : ” إن ماركس هو أولا وقبل كل شيء سوسيولوجي واقتصادي النظام الرأسمالي ، لقد كانت لديه نظرية عن هذا النظام وعن المصير الذي يخبئه للناس وعن المستقبل الذي سيصير إليه. وبوصفه سوسيولوجيا ـ اقتصاديا لما كان يسميه الرأسمالية ، فإنه لم يكن لديه أي تمثل دقيق ومحدد عما سيكون عليه النظام الاشتراكي “.

آرون أيضا يقول : ” إن ماركس لم يكن يفضل عدم فهم الحاضر عن التنبؤ بمستقبل إرادة العمل […] إذن فقد كان نبيا ورجلا عمليا وعالما في نفس الآن ” .

آرون أخيرا يقول : ” فكر ماركس هو تأويل لخاصية التناقض والصراع في المجتمع الرأسمالي[…] وأعماله هي مجهود بذل لبيان أن سمة الصراع لا تقبل الانفصال عن البنية العميقة للنظام الرأسمالي وعن مآل الحركة التاريخية في نفس الآن“.

لماذا هذه الاستشهادات ؟ … لأنها تفسر راهنية ماركس وتبرر نصوصه باعتبارها حاضرا ؛ ففي قلب الفكر الماركسي أو المتمركس نجد الرأسمالية وتاريخها وطريقة اشتغالها وتناقضاتها وصراع الطبقات الناجم عنها وكذا المستقبل الذي تفرزه.

بيد أنه ، وفي فرنسا في الشهور الأخيرة ، ظهر رجل ، وليس أي رجل ، ليبين لنا أن كل مآسي اليسار راجعة إلى عدم فهم هذا الأخير أن الرأسمالية انتصرت على الاشتراكية ، وبعبارة أخرى ، لم يفهم بعد أن ماركس مات . هذا الرجل هو ميشال روكار الذي كان يعلن في شبابه على الملأ كل خمس سنوات ، وعلى صفحات أسبوعية نعرفها جيد ، لا موت ماركس وإنما موت الرأسمالية . إن ميشال روكار يمكنه أن يجيب محقا بأنه كيفما كان الحال فقد فهم أن أصدقاءه في اليسار يرفضون الاعتراف بذلك.

فهل يؤدي انتصار الرأسمالية إلى انهزام ماركس واندحاره ؟ .. ليس على كل المستويات بطبيعة الحال ؛ فنقد المجتمع الصناعي الذي أحدث ميلاده ثورة في بريطانيا يظل أداة عمل في أيدي المؤرخين والسوسيولوجيين والاقتصاديين أيضا ، ويمكننا أن نقول إنه بدون فلسفة ماركس في الاستلاب ، لم يكن بالإمكان إلا نسبيا تصور أعمال مثل أعمال فيرناند بروديل وميشال فوكو وبيير بورديو. غير أن تنوع الموضوعات المعالجة هنا يجعلنا نقف بما يكفي على استمرار بعض المساهمات الإضافية للفكر الماركسي حتى يصبح من الممكن تركيز كل شيء على الرأسمالية ، على الأقل في المقام الأول.

من خلال الإعلان بصورة مدوية عن انتصار الرأسمالية ، فإن ميشال روكار يستدعي ، دون أن يصرح بذلك ، حالات الاشتراكية السويدية ، الألمانية والإسبانية ؛ فقد قطع الثلاثة في الستينيات علاقتهم بالماركسية وبجعل وسائل الإنتاج مشتركة بين الجميع وبديكتاتورية البروليتاريا . لقد تصرف الاشتراكيون الفرنسيون بدون شك ، لكن انطلاقا من سنة 1983 فقط ، كما لو أنهم يصطفون في صف ردة أحزاب استوكهولم وبون ومدريد ، لكنهم رفضوا أن ينظروا لهذه الردة وأن ينظموا بيداغوجيتها ، وبذلك جعلوا أنفسهم عرضة للاتهام بالخيانة بدل أن يعتبروا مطالبين جريئين بالتكيف مع الحداثة ، وهم يستمرون اليوم في دفع ثمن حنينهم البدائي.

في سنة 1989 ، ومع سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين، حدث شيء عظيم من الناحية السياسية ، لكنه عملاق من الناحية الإيديولوجية ؛ فقد استسلم وطن الاشتراكية وإمبراطورية المذهب الجماعي ودرع البروليتاريين والعالم الثالث في أرض عراء وبدون قتال . لقد سلم الاتحاد السوفييتي أسلحته في خضم المعركة بدون زهو و لا سعادة . ولقد تكرس في ذلك اليوم ، لا انتصار القوة الأمريكية الكبرى فقط ، وإنما تكرس أيضا المفهوم الغربي والرأسمالي للديمقراطية . لقد تم إعلان إفلاس مثال المذهب الجماعي البروليتاري والمساواتي في وجه العالم ، وكانت الرأسمالية موضوع استفتاء كوني وانخراط من طرف الجميع على مستوى البسيطة، بل إن البعض ذهبت بهم الحمية العمياء إلى حد إعلان نهاية صراع الطبقات، أي نهاية التاريخ من زاوية النظر الماركسية.

غير أن ما تجاهل السيد ميشال روكار التذكير به ، كما هو الشأن لدى معلقين آخرين هم أمريكيون بالمناسبة ، هو أن الولايات المتحدة كانت قبلا في سنة 1989 ، وفي فترة تكريس سموها ، قد غرقت في تناقضات الرأسمالية التي سبق أن وصفها ماركس ، ولم يتم إنقاذها من الغرق إلا بفضل الموت المتسارع لنظام سوفييتي يحتضر. وبعبارة أخرى ، إذا كان إفلاس الاتحاد السوفييتي قد استطاع الإشارة إلى نوع معين من موت الماركسية ، فإن انتصار الولايات المتحدة لا يؤدي بالضرورة إلى موت ماركس.

بيد أنه إذا ما ظللنا في مجال صلاحية الرأسمالية المعلن عنها على غرار الديمقراطية التي هي ” أقل الأنظمة رداءة باستثناء كل الأنظمة الأخرى ” ، وإذا ما قدرنا أنه يتوجب تفضيل مثال الحرية على مثال المساواة ، وأن قيم التنافسية تنتصر على قيم التضامن ، وأن الرأسمالية أخيرا نظام يضبط أموره بذاته بطريقة معجزة ، ويصحح انحرافاته بكفاءة عالية ، فإنه يتوجب علينا الانتباه إذ ذاك جيدا للأحداث التي ترج الأمم في صراعها ضد العولمة وضد تعسف الإمبراطورية الأمريكية.

ودونما حاجة للجوء إلى تحليل نفسي واجتماعي للحركات البديلة للعولمة ولدلالاتها على مستوى البسيطة ، نستطيع أن نلاحظ قبلا أن الفضائح غير المسبوقة التي لطخت منذ عهد قريب وشوهت ودنست التطهرية المفترضة لدى كبار المقاولين الأمريكيين، قد طرحت من جديد مسألة تناقضات الرأسمالية بدل أن تطرح مسألة انتصارها النهائي.

استشهاد من البيان الشيوعي : ” إن تاريخ كل المجتمعات إلى أيامنا هاته هو تاريخ صراع بين الطبقات ، أناس أحرار وأناس عبيد ، أرستقراطيون وعوام ، بارونات وأقنان ، أسيد وموالي ، وبكلمة واحدة : مضطهَدون ومضطهِدون كانوا دائما في حال مجابهة ، وقد انخرطوا في صراع لا هوادة فيه ، صراع مقنع أحيانا وسافر أحيانا أخرى ، كان ينتهي في كل مرة إما بتغيير ثوري للمجتمع بأكمله أو بدمار مختلف الطبقات المتصارعة“.

بيد أنه ، وحسب كامو ، فإن الإيمان بالتقدم واستنتاجات رينان تبدو اليوم مذهلة ومروعة ، إن صراع الطبقات يوجد اليوم بصيغ مخالفة ، إنه يظهر من جديد وينتشر ويتغير ، لكن مع اختلاف جدير بالاعتبار لأن العبد والعامي والقن والمولى ، وبكلمة واحدة لأن المضطهدين والمسحوقين لم يعودوا يؤمنون بمجتمع ” تختفي فيه الصراعات الطبقية ويتمركز فيه الإنتاج بين أيدي أفراد شركاء وتفقد فيه السلطة العمومية سمتها السياسية [….] وأن المجتمع البورجوازي القديم بطبقاته وصراعاته الطبقية سيخلي المكان لشراكة يكون فيها الازدهار الحر لكل فرد شرطا للازدهار الحر للجميع“. لم يعد هناك أي شخص من بين ” المستغَلين” يرغب في الانخراط في هذه النزعة المسيحية المتعلقة بالتقدم، وفي هذه النبوية التي أضحت دينية حيث يلتحق ” ما بعد ” لدى الملحدين بـ ” الآخرة ” لدى المؤمنين. ألبير كامو يقول : ” ماركس هو في نفس الآن نبي بورجوازي وثوري [ …] والتمسح العلمي لدى ماركس هو ذو أصل بورجوازي ؛ فالتقدم ومستقبل العلم وعبادة التقنية والإنتاج ، كلها أساطير بورجوازية تشكلت على هيئة عقيدة في القرن 19 ، وسيشار إلى أن ” البيان الشيوعي ” ظهر في نفس السنة التي ظهر فيها كتاب رينان ” مستقبل العلم “ “.

والطامة تتمثل في أن انتصار الرأسمالية لم يلغ تناقضاتها أبدا، وأن ماركس ضمن البقاء بعد الماركسية ، لكن الاقتصاد الذي كان بروميثيوسيا هو أبعد ما يكون عن أن يشكل المحدد الوحيد للسلوكات ، وذلك على النقيض مما افترضه ماركس ، و لا يبقى في الغالب الأعم كدواء لداء فقدان الأمل الاجتماعي أو البؤس الاقتصادي ، غير الاحتماء بالفوضى والفردانية ، النزعة العدمية أو الدين.

* جان دانيال كاتب ومؤسس مجلة ” النوفيل أوبسيرفاتور ” ،آخر كتاب ظهر له هو ” السجن اليهودي ” أوديل جاكوب 2003.