Category Archives: علم نفس

اضطرابات التعلم

اضطرابات التعلم

المحنة المدرسية

لماذا لا يستطيع بعض الأطفال الأذكياء تعلم القراءة والحساب ؟ . . اليوم ، وبالإضافة إلى الوسط الاجتماعي والحوافز المختلفة ، يشار بأصابع الاتهام إلى العوامل النورولوجية (= العصبية ).


  • جاك جريجوار

    بقلم : جاك جريجوار

  • دكتور في علم النفس وأستاذ بجامعة لوفان
  • وهو مؤلف كتاب : ” الفحص الإكلينيكي لذكاء الطفل، أسس وممارسة WISC-IV “
  • الطبعة الثانية مارغادا 2009.

 

ألفريد بيني

يغطي مفهوم اضطرابات التعلم واقعا معقدا ؛ فهو يشير إلى المشاكل التي تظهر لدى الطفل مبكرا خلال عملية النمو ، كاضطرابات اللغة والكلام ، وإلى مشاكل أخرى لا تظهر إلا في لحظة التمدرس ؛ كمشكل عسر القراءة والفهم Dyslexie، إنه يشير إلى اضطرابات ثبت أصلها النورولوجي ( العصبي ) وإلى مشاكل منحدرة من تحفيز فاشل وضعيف . ومن أجل الفهم السليم لتعقد هذا المفهوم ، نحتاج بالضرورة إلى  رض تاريخي مختصر.

اضطرابات التعلم

والتمدرس الإجباري

إن نشوء المفهوم المعاصر لاضطرابات التعلم مرتبط بشكل وثيق بظهور التمدرس الإجباري، وقد ظهر في مواجهة التلاميذ الذين يعانون من صعوبات في التعلم أن المعلمين عاجزون وأن إعداد وتكوين مدرس متكيف مع هذه الأوضاع هو مسألة لا مفر منها. وفي خذا السياق وضع ألفريد بيني Alfred Binet بفرنسا أول رائز للذكاء سنة 1905 ، مهمة هذا الرائز تمثلت في الكشف عن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في مجال التعلم ، والذين هم بالتالي في حاجة إلى تعليم خاص . إن صعوبات التعلم بالنسبة لبيني ومعاصريه هي بالفعل عواقب إفلاس ذهني أو حسي ، ومن ثمة فقد عرف هذا التصور الإرجاعي لاضطرابات التعلم ، ومنذ ذلك الحين ، تطورا سريعا.

في نفس الحقبة ، كان عدد كبير من المؤلفين يصفون حالات أفراد لا يمتلكون القدرة على تعلم القراءة رغم الكفايات الحسية والذهنية التي تبدو لديهم عادية وسليمة. وستمكن روائز  QIمن موضعة الكفايات الذهنية لدى هؤلاء الأفراد وتمييز الاضطرابات الخاصة بهم التي يعانون منها عن الاضطرابات العامة والكلية التي تميز عموما الأفراد المتخلفين عقليا. وفي التوصيفات الحالية للأمراض مثل   CIM-10 أو  DSM-IV يظل إثبات الحالة برائز  QI أحد المعايير الأساسية للاضطرابات الخاصة للتعلم، مقرونا بغياب الاضطرابات الحسية ووجود تمدرس مناسب.


لكن ، ما هو أصل اضطرابات التعلم الخاصة ؟ . . من بين كل هذه الاضطرابات كان الاضطراب الذي حاز الاهتمام أكثر من غيره وشكل موضوع أكبر عدد من الأبحاث هو اضطراب عسر القراءة والفهم، وقد أعطيت الأولوية على الفور ومنذ بداية القرن العشرين ، في إطار بيان أسبابه ، لفرضية الإفلاس العصبي الفطري [ أي المولود مع الشخص ] . أوائل الباحثين أكدوا بادئ ذي بدء أن عسر القراءة والفهم يجد أصوله في نظام بصري غير ناضج ، لكن ، وانطلاقا من سنة 1970 اضطرت هذه الفرضية لإخلاء المكان لتفسير آخر ينسب الظاهرة لإفلاس فونولوجي (= صواتي ) ؛ فالأشخاص الذين يعانون من صعوبة القراءة والفهم يتسمون بالفعل بكونهم يجدون صعوبة في تحليل أصوات اللغة المنطوقة والتعرف على مكوناتها الأولية المتمثلة في الفونيمات. واضطراب الوعي الفونيمي الذي هو سبب عسر القراءة والفهم يبدو اليوم مرتبطا وراجعا لإلى اختلال التنظيم في بعض المناطق العصبية ، بدون أن يكون لذلك أي انعكاس على الكفايات الذهنية.


أهمية سياق الظهور

لقد أدى نجاح الأشغال المتعلقة بعسر القراءة والفهم إلى التأثير بعمق على الأبحاث المخصصة لاضطرابات التعلم الأخرى؛ وهكذا، فقد تم تركيز الأبحاث الحديثة بخصوص عسر الحساب Dyscalculie بدورها على كشف منطقة عصبية مسؤولة عن إفلاس في كفاية قاعدية تصيب بالاضطراب وبشكل تسلسلي مجموع الكفايات الرياضية. ويعتبر عديد من الباحثين أن الأفراد المعانين من عسر الحساب عانوا من خلل في اشتغال النظام العصبي الخاص بتمثل الكميات ، يؤدي بدوره إلى صعوبات في تعلم الكفايات الرقمية الأولى.

وفي الوقت الذي انهمك فيه بعض الباحثين في الكشف عن عوامل عصبية نفسية جد محددة في أصل بعض اضطرابات التعلم ، فقد اهتم باحثون آخرون بمشاكل أكثر عمومية تصيب بالاضطراب مجموعة واسعة من التعلمات ، ومن بين هذه المشاكل ، يحتل إفلاس الانتباه مكانة مرموقة، غير أنه يمكننا أيضا أن نذكر حالات عسر القراءة والفهم وحالات الاضطرابات الحركية Dyspraxies الكفيلة بإحداث مجموعة من اضطرابات التعلم.

يقوم بين الأبحاث المذكورة أعلاه لحد الآن قاسم مشترك يتمثل في النظر إلى اضطرابات التعلم من زاوية محض عصبية ذهنية وخارج أي سياق ، وقد مكنت هذه المقاربة من تحقيق خطوات تقدم لا يمكن إنكارها في مجال فهم واستيعاب اضطرابات التعلم، ورغم ذلك ، فقد تبين أن سجنها في هذا الإطار وحده هو مسألة اختزالية وتبسيطية؛ وهكذا ، فإن الطفل المعاني من عسر القراءة والفهم ، وفي مواجهة عجزه عن تعلم القراءة ، سيرى صورة كفاياته الذهنية وقد انتقص منها ، كما سيرى سيرى تحفزه للتعلم المدرسي وقد وهن وأصيب بالإحباط بشكل كبير ، ومن ثمة ظهرت ضرورة مقاربة أكثر شمولية لاضطرابات التعلم تأخذ بعين الاعتبار انعكاساتها العاطفية والتحفيزية، وزيادة على ذلك ، فإن من شأن الشروط والظروف التربوية المبكرة وكذا مناهج التعلم إما أن تخفف وتهون من العجز لدى الطفل أو تفاقمه وتعمقه. وبالنتيجة ، فإن اضطراب التعلم ليس صفة للفرد ، إذ يجب فهمه من خلال سياق ظهوره.

—————————————

موضوعات علم النفس :

الفوبيا

لكل منا مخاوفه المرضية

أغورافوبيا ، الفوبيا الاجتماعية ، الفوبيا المرتبطة بشيء من الأشياء . . . إنها مخاوف عادية يمكن أن تتفاقم ويختل تناسبها مع موضوعاتها إلى حد أن تشل حركاتنا وأفعالنا.

بقلم : جان لويس بيدينيالي و باسكال برتاني

الفوبيا La Phobie من اليونانية Phobos [خوف] هي خوف دائم ومتواتر ومزعج من شيء أو موضوع ما [ قد يكون حيوانا ] أو من وضعية معينة [ كأن يتواجد المصاب وسط حشد من الناس] مما يصيبه بالرعب. الفوبيا ظاهرة جد عادية ، لكنها تغدو ظاهرة مرضية عندما تضع حدودا لأنشطة الحياة اليومية وحسن الحال. وقد ابتدأ الطب النفسي بوصف بعض هذه المخاوف في نهاية القرن 19 أغورافوبيا Agoraphobie ( الخوف من أماكن التجمعات البشرية : حشد ـ متجر …الخ) [1871] Claustrophobie ( هي الخوف من الفضاءات والأماكن المغلقة أو الأعالي) [1879] éreutophobie ( الخوف من الاحمرار خجلا) [1896] ، ولقد وضع كل من سيجموند فرويد [1895] وبيير جاني [1903] نظريات سيكولوجية لأسباب وأصول هذه المخاوف ، ثم تم تحديدها من قبل( DSM و  CIM ) فصنفت في إطار ” الإضطرابات الرهابية” .

ميكانيزمات الفوبيا

  1. مواجهة موضوع أو شيء أو وضعية تحدث حالة الجفول والهلع Panique (رؤية ثعبان على سبيل المثال).
  2. خوف من الشيء أو الوضعية يستمر ويدوم حتى عند عدم حضورهما [ ” حيث يعاش الموضوع أو الوضعية عن طريق الفكر ” ] أو يتم تخيلهما؛ ” عندما أفكر في ثعبان أشعر بالرعب، حتى ولو أنه غير موجود أمامي ” ].
  3. رد الفعل المتمثل في الرعب الشديد عند مصادفة الموضوع أو الوضعية ” إن قلبي يرجف بشدة، وأرتعد، وأحس بدوار في رأسي، ويتلاشى الواقع من تحت قدمي، وأشعر أنني سأفقد الوعي. . إنني خائف جدا “.
  4. التحاشي أو الفرار [ أتحاشى وأتجنب الأماكن والكتب والأفلام التي توجد بها تعابين ].
  5. بعد مواجهة الشيء أو الوضعية أو تحاشيهما وتجنبهما، تظل هنالك ذكريات مرعبة وأحاسيس فقدان القيمة أو الخجل والضعف.
  6. الحماية بفضل أشخاص [ ” موضوعات ضد – فوبية contraphobique “] أو المواجهة [ الهروب إلى الأمام ] مع حركية زائدة عن اللزوم إن لم تكن احتكاكا مقصودا ( التحدي) .

وعادة يتم تجميع المخاوف في ثلاثة تصنيفات أو صنافات [ DSM.IV ] :

  • أغورافوبيا Agoraphobie : وهي الخوف من الأماكن والوضعيات التي يصعب الإفلات منها أو ضمان النجدة في حالة الجفول : التواجد وسط حشد من الناس أو في متجر كبير أو أماكن مفتوحة…
  • الفوبيا الخاصة Spécifique : وتتعلق بالأشياء : حيوانات ـ وسط طبيعي ( رعد ، ماء ، أعالي . . ) دم ، شوكة الطبيب ، حادثة اصطدام ، أمراض ، وسائل النقل ، أنفاق ، جسور ، مصاعد ، أسفار جوية ، سياقة السيارة ، أماكن مغلقة ، الضجيج القوي والأشخاص المقنعون ( بالنسبة للأطفال ).
  • الفوبيا الاجتماعية La Phobie sociale : وتتمثل في الخوف من احمرار الوجه خجلا (éreutophobie) أو من الكلام أو الشرب أو الأكل أو الكتابة في مكان عام.

الأسباب المفترضة الثلاثة

  • عضوية Somatiques : هنا يتم تجريم الموصلات النورونية Neurotransmetteurs : النورادرينالين وخاصة السيروتونين ، ومن ثمة فإن أجزاء متعددة من الدماغ تساهم في معالجة العواطف ستكون متورطة.
  • معرفية Cognitives: يتم تعلم الفوبيا والاحتفاظ بها عن طريق عمليات التشريط وعن طريق الأفكار. إن الرهاب ينطلق بفعل حدث خطير ( أو الرضوض الصغيرة والمتكررة ) عن طريق محاكاة السلوكات العائلية أو عن طريق المبالغة وتضخيم الرسائل التربوية المقلقة. ويمكن أن يوجد أيضا كخاصية من خصائص الشخصية ، إنه يرتبط بشكل ثانوي بشيء ( منبه ) هذا الذي يصبح بفعل عملية التشريط موضوع الرهاب والهلع ( جينة الرهاب ): غنه منذاك يحدث الخوف باعتباره خطرا حقيقيا. ومتى ما تم هذا الترابط بين الطرفين ، فغن الفوبيا يتم تدعيمها عن طريق خطاطات تفكيرية : استباق وتوجس رهابي ، تركيز الانتباه على الخطر ، حذر وانتباه مفرطان ومضخمان  Hyper vigilance ، بناء سيناريوهات كارثية ( الخلط بين المتوقع والمؤكد )  استنتاجات وتعميمات اعتباطية ، أخطاء في التأويل ، عمليات تحاشي وتجنب المخاطر ( تؤدي إلى ارتفاع درجة الرهاب).
  • الأصل اللاواعي واللاشعوري : لقد ابتدأ اهتمام التحليل النفسي بالمخاوف من خلال تحليل فرويد لمخاوف الصغير هانس ( 1905) ، هذا الطفل ذو الخمس سنوات والذي هو في صراع أوديبي مع أبيه ، يحول عدوانيته وهلعه ويسقطهما على الجياد التي يتحاشاها : حيث أضحى الجواد بديلا عن الأب الذي يرهبه. إن الفوبيا نمط من أنماط تحويل الرعب والهلع : إنها توطين وتمثيل لرعب سابق ، إنها انتشار للخوف غير قابل للتحديد [ الرعب هو خوف بدون موضوع ، وعن طريق الفوبيا يتحول إلى ” خوف ” من شيء يحاول المريض تحاشيه وتجنبه].إن طبيعة وأصل الرعب يمكن أن يتغيرا : رعب ناجم عن رغبة ، رعب هو إعادة إنتاج لصدمة سابقة ، رعب الإخصاء ، أشكال مبكرة من الرعب [ ” بدائية ” مصيبة بانهيارات عصبية ، اضطهادية حسب ميلاني كلين ). إن الفوبيا حسب التحليل النفسي إذن هي نقل الرعب وتحويله إلى موضوع يقوم بينه وبين سبب المشكل النفسي رباط معين. إن موضوع الفوبيا هو ممثل الصراع اللاشعوري غير المحلول ، وهو يمتلك معنى فرديا مرتبطا بتاريخ المريض.

وترتبط المخاوف باضطرابات أخرى تشترك معها ( Co morbidité ) : اضطرابات رهابة أخرى ، شخصية هروبية ، اضطرابات مزاجية ( الانهيار العصبي ) . إنها يمكن أن تقود نحو استهلاك ( الكحول ، المهدئات ، السموم ) مع إمكانية التعرض لخطر الإفراط والإدمان. إنها تتسبب في العديد من الإعاقات ( صعوبات تهم الحياة الأسرية والمهنية وأوقات الفراغ ) وتولد مشاكل اجتماعية ومالية وتبرما وسخطا دائمين.

إقرأ أيضا :

لغز المريض النفسي المتعدد الشخصيات

بقلم : كلودي بيرت

كلودي بيرت

عن : مجلة العلوم الإنسانية الملفات الكبرى رقم : 20

لقد كانت عدوى حقيقية انتشرت في الولايات المتحدة في نهاية القرن العشرين مدمرة العديد من الأسر ومتسببة في إقامة المئات من المحاكمات، ظاهرة غير مفهومة ، عنيفة ومؤقتة .

سيبيل تحضر درسا في الكيمياء بجامعة كولومبيا بنيويورك ، الأستاذ يكسر أنبوبا زجاجيا ، سيبيل لا تتحمل صوت الزجاج المنكسر ، فتخرج من قاعة الدرس راكضة و . . . تتمشى في شوارع فيلاديلفيا ـ وهي مدينة تعرفها جيد ـ ، لكن ماذا تفعل فيها الآن؟.. خمسة أيام تمضي على هذه الحال ، وهو ما نسيته سيبيل. هكذا تبدأ قصة سيبيل التي كتبتها سنة 1973 فلورا شرايبر . إن القارئ سيكتشف أن مكان سيبيل خلال هذه الخمسة أيام التي اختفت فيها عن الأنظار ، سيتم احتلاله من طرف ” شخصية ” أخرى. لقد جعل نجاح الكتاب في أن يجعل من سيبيل نموذج ” الشخصية المتعددة ” ، وقد كانت غالبية النماذج مثلها من النساء، إن لديهن ” شخصيات متعددة ” أو ” بدلاء ” [16 بالنسبة لسيبيل ] يختلفون من حيث السن والسمة العامة للشخصية وطريقة التعبير ، ويمكن أن يكن أيضا حتى من الجنس الآخر. إنهن كلهن يعرفن الشخصية الرئيسية ، لكن هذه الأخيرة لا تعرفهن، ولقد نجمن عن تفكك تتحدد مهمته في الدفاع عن الشخص ضد الصدمة والجرح الناجم عن [ اعتداء جنسي في الأغلبية الساحقة من الحالات] ذكراه تم كبثها ومنعها من الطفو على سطح الوعي . بعد موجة أولى في القرن 19 ، اتخذت عملية إعادة اكتشاف الشخصيات المتعددة إثر نشر قصة سيبيل بالولايات المتحدة ، وبسرعة ، صورة انفجار هائل : فقد انتقل عدد الحالات التي تم تشخيصها من أقل من 200 حالة خلال القرن 19 بأكمله إلى 50000 حالة سنة 1999 ، كما انتقل عدد ” البدلاء ” عن كل مريض من 2 أو 3 إلى عدة عشرات ، مع رقم قياسي هو 4500 بديل.وانطلاقا من عملية اغتصاب من طرف أحد الأقرباء تتابع عمليات الاغتصاب المتكررة في إطار مجموعة ، ثم عمليات اغتصاب خلال طقوس شيطانية تتزايد فظاعتها أكثر فأكثر.

شلال من المحاكمات

كيف يتم التوصل اليوم إلى تشخيص اضطرابات الشخصية المتعددة؟ ..إن هنالك في الغالب لدى شخص يصف علامات عدم حسن الحال ( انهيار عصبي ، أرق ، رهاب . . . ) طبيب نفسي ، وهذا الأخير يطرح الأسئلة ، وإذا قدر انطلاقا من علامات معينة وأجوبة معينة ، أن المريضة ربما تعرضت لتجاوزات جنسية في طفولتها ، فإنه يحاول أن يجعلها تتذكر تلك الأحداث عن طريق بعض التقنيات كالتنويم المغناطيسي ، أو عن طريق بعض المخدرات ، أو الصور الموجهة ، أو العمل داخل جماعة. لقد تعددت المحاكمات ( 736 في ما بين 1992 و 1998 على سبيل المثال ) وتم النطق خلالها بأحكام ثقيلة في حق المغتصبين المفترضين باعتماد شهادة واحدة ووحيدة هي شهادة الضحية بخصوص أحداث وقعت منذ ثلاثين سنة خلت. وقد انتهى الأمر بحدوث ردود أفعال اتجاه ذلك : ففي سنة 1992 مارست عائلة فريد الهجوم المضاد بعد اتهامها من طرف ابنته ، وذلك بإنشاء منظمة Falsememory Syndrome Foundation (FSM ) ، وقد انضم لهذه الجمعية بسرعة 8000 من الآباء ، كما ضمنت تدخل مهنيين مرموقين كالطبيب النفسي مارتان أورن وعالمة النفس إليزابيث لوفتوس المتخصصة في الذاكرة. وقد تقدم الآباء المتهمون بشكايات ضد أبنائهم ، ثم ضد الأطباء المعالجين الذين اتهموا بكونهم دفعوا أبناءهم للإدلاء بشهادات كاذبة ، كما اتهموا بخلق شخصيات وهمية. وقد حكم على المعاجين بأداء تعويضات ثقيلة ، فتناقصت بذلك حالات الشخصيات المتعددة دون أن تختفي تماما ، غير أن النزاعات استمرت بخصوص عدة نقط : • فهل يوجد شيء اسمه الكبث الكثيف لحالات العنف الجنسية التي تم التعرض لها خلال مرحلة الطفولة، وتذكر تلك الأحداث كما وقعت بفضل التنويم المغناطيسي خاصة ؟ .. • هل يوجد في الحقيقة شيء اسمه اضطراب الشخصية المتعددة ؟ .. وارتفاع عدد تلك الحالات هل هو راجع لكوننا نستطيع تشخيص المرض بشكل أفضل ، كما يعي ذلك المعالجون المقتنعون بوجود هذا المرض ؟ .. أم أن هذا الاضطراب هو من خلق وابتكار هؤلاء المعالجين أنفسهم ؟ .. إن السؤال يستحق الطرح بالنظر إلى أن 80 ÷ من المرضى لا يكتشفون تعدد شخصيتهم إلا خلال عملية العلاج النفسي . . . إن الموسوعات المختصرة المتعلقة بهذا المجال هي ذاتها مترددة ؛ فـ ” اضطراب الشخصية المتعددة ” تم إدراجه في DSM-III سنة 1980 ، لكنه أضحى في سنة 1994 وفي DSM-IV يحدد كالتالي : ” الاضطراب المفكك للهوية ” وهما نعتان لا يشيران إلى شيء واحد ، أكيد أن هذا يشير إلى أن هنالك اختلالا في الشعور بالهوية ، لكن لدى شخص بعينه. • ما هو العلاج الأفضل؟.. يجب حسب ” المعتقدين ” في وجود مرض الشخصية المتعددة القيام بعملية إحصاء للبدلاء ، وإعادة بناء قصة تكونهم ، ثم محاولة إدماجهم بعضهم في بعض ، لكن العلاج باعتراف المعالجين أنفسهم يطول وتبدأ حالة المريض غالبا في التدهور . . . كما أن معالجين آخرين ينصحون بمقاربة معاكسة: تجاهل البدلاء مما يجعلهم يختفون من تلقاء أنفسهم ، وتركيز الاهتمام على علاج المشاكل التي جاء المرضى طلبا لعلاجها. ومع الأسف ، ليست هناك دراسات سابقة حول نتائج هذه العلاجات. يبقى أن نجيب على سؤال محير هو : لماذا هذا النجاح لمرض اضطراب الشخصية المتعددة في تلك اللحظة بالذات وفي ذلك البلد بعينه [ ذلك أن الولايات المتحدة كانت الأكثر تضررا من هذا المرض ] ؟.. إنه يتعلق الأمر حسب إيان هاكينغ بمرض عقلي ” عابر ومؤقت ” وجد في الولايات المتحدة ” عشا إيكولوجيا ” ملائما ومشجعا خاصة مع الموجة النسوانية ، ومع اكتشاف حالات العنف الجنسي الممارسة على الأطفال في بداية الستينيات ، ومع استمرار الخوف من الشيطان لدى المسيحيين الإنجيليين. وقد ساهمت التلفزة بقدر كبير في النجاح العمومي لظاهرة هي بهذه الغرابة والفجائية. . .

********************************

إقرأ أيضا :

الشيزوفرينيا

كليشيهات وأفكار مغلوطة
حول الفصام

ينعث الأشخاص الفصاميون في الغالب ، وعن خطأ ، بأنهم خطرون ، في حين أنهم يعانون قبل كل شيء من عدم انسجام وترابط فيما بين أفكارهم وعواطفهم وسلوكاتهم.


بقلم : آن كوت ـ فاياند

طبيبة نفسية مسؤولة عن مركز التقييم

الخاص بالبالغين الشباب والمراهقين بمستشفى

سانت آن (باريس) ، وقد نشرت بمعية دافيد غوريون

” الإضطرابات الفصامية ” إيليبس ، 2004.

لقد كان إميل كرابلان ( 1856 ـ 1926 ) ، وهو طبيب نفسي ألماني ، من أوائل من وصفوا الجنون المبكر La démentia Praecox : ويتعلق الأمر بالنسبة له بشكل من أشكال الانحطاط العقلي وتطور لا هوادة فيه نحو ” حالة إضعاف نفسي ” ، وهو ما سيتم تفنيده فيما بعد. وبعد ذلك ، أي في سنة 1911 ، مكنت أبحاث أوجين بلولير ( 1857 ـ 1939 ) من الإحاطة بشكل أفضل ب ” جماعة الفصاميين ” ، وهذا اللفظ الذي عوض لفظ ” الجنون المبكر ” مكون من جذرين إغريقيين هما : ” شيزو shizo” ( فصل ( و ” phrène ” ( عقل ) .وقد وصف بلولير الفصام بكونه قطيعة ، انفصالا فيما بين الميكانيزمات النفسية الممكنة من ربط الأفكار بالعواطف . وقد شكل بلولير نقطة انطلاق الأبحاث الحالية في مجال علم نفس الأعصاب Neuropsychologie.

ولقد مكن تبلور المفاهيم وتطورها ، كما مكنت العديد من المعطيات العلمية من فردنة الفصام مقارنة بحالات الجنون المبكر الانحطاطي، مشيرة إلى إمكانية تطور إكلينيكي إيجابي ، إن لم يكن إلى تناقص أعراض المرض وخمودها. وفي أيامنا هاته، يقوم تشخيص الفصام على مجموعة من علامات التطور المزمنة ( مدة تطور المرض تزيد على 6 أشهر ) والمحددة في ” المختصرات ” المخصصة للأطباء ( DSM-IVأو CIM-10 ) ، وليست هناك في هذا المجال علامة خاصة أو محددة ؛ فاجتماع عدد كبير من العلامات هو الذي يمكن من القيام بعملية التشخيص.

ثلاثة مجموعات من العلامات

تمكن المقاربة الأبعادية Dimensionnelle للمرض من التمييز بين ثلاثة مجموعات من العلامات : العلامات الإيجابية ـ العلامات السلبية ـ واختلال التنظيم :
– العلامات الإيجابية هي ” ناجمة عن المرض “:
العلامات الهذيانية : ويتعلق الأمر بأفكار غير معتادة ومعتقدات غير واقعية تتوازى مع تضعضع وانحطاط لإدراك الواقع. وعند عبارة هذيانية ما ، يكون المريض مقتنعا بأن أفكاره صحيحة، وهي في الغالب أفكار ( الشعور ) بالإضطهاد ( فلديه انطباع بأن أحدا ما يتعقب خطواته في الشارع ، أو أن أحدا ما يتنصت عليه ) ، غير أن موضوعات أخرى يمكن أن تبرز أو تطفو على السطح ، كما لو كانت أفكارا سحرية أو أفكار تملك أو أفكار القوة الكاملة ، أو البنوة أو الغيرة أو الابتكار. وتلك الأفكار يمكن أن تؤدي إلى أفعال واضطرابات سلوكية جد خطيرة كثيرا أو قليلا ، سواء نحو الذات أو نحو الآخرين ، إنها عامل من عوامل احتداد المرض بفعل الآلام الناجمة عنها.
الهلوسات : وهي إدراكات بدون موضوع تتم عن طريق الحواس ، ويمكن ان تتم عن طريقها كلها في نفس الآن. إنها في الغالب سمعية، مع امتلاك اليقين بسماع حركات أو أصوات مجهولة المصدر. ويمكن أن يتعلق الأمر بإدراك صوت داخلي، أو فكرة يتم الإحساس كما لو كان مصدرها خارجيا عن طريق التخاطر عن بعد ، تلك التي يسميها الأطباء النفسيون ” الأتمتة العقلية Automatisme mental “. هذه الأصوات أو تلك الفكرة تعاش في الغالب باعتبارها مكروهة، محدثة لآلام حادة وعنيفة.
إن حضور الهلوسات يمكن أن يغذي أفكارا هذيانية ( تدفع مثلا إلى الاعتداء على شخص ما اعتقادا من المريض بأنه يضطهده ) .
إن هذين النوعين من العلامات هما في العادة علامات يمكن ملاحظتها والوقوف عليها ، وذلك لأنها تفقأ الأعين بوضوحها .


العلامات السلبية تتسم بالانطواء العاطفي والاجتماعي وكذا بتبلد الإحساس .
اضطرابات الشعور العاطفي تتمثل في برود عاطفي يترجم عن طريق نوع من الانفصال عن الأوضاع المولدة عادة لهذا الشعور ( ولادة ـ مأتم ـ توتر وقلق stresse ) ، وعن طريق عدم تطابق في ما بين الأفكار والعواطف ، وصعوبة في تأويل عواطف الآخرين. العواطف هنا غير متلائمة مع الأوضاع أو الوضعيات ، كالانخراط في الضحك عند تذكر وفاة أحد الأقرباء.
الانزواء والانكفاء على الذات : هي العلامات الأكثر ترددا وارتباطا بهذا المرض ، وهي في الغالب عواقب انعدام التوافق العاطفي . إننا يمكن أن نجد هذه العلامات في أمراض أخرى ، غير أن السمة العامة والدائمة والمتطورة للانزواء ، في ارتباط مع البرود وعدم التوافق العاطفيان ، والتي لها تأثير كبير وحاسم على نوعية الحياة لدى المريض وجودتها ، تؤدي شيئا فشيئا إلى عدم اندماج عاطفي وسوسيو مهني معيقين. وعندما يكون الانزواء والانسحاب مهيمنا، فإننا نتحدث إذ ذاك عن انسحاب انطوائي.
التعب وقلة الحيوية والنشاط هما شائعان ، وهما غير ناجمين عن قلة الإرادة أو الكسل ، وإنما عن عدم القدرة على فعل الأشياء ( يتم الحديث حينها عن النزعة اللاعملية apragmatisme ” ) .


علامات اختلال التنظيم:
• تتمظهر إضطرابات محتوى التفكير من خلال الصعوبة التي يجدها المريض في تركيز الانتباه وفي خطاب قليل التماسك ومحاولات ضبابية لتفسير العلامات ( يتم الحديث حينذاك عن ” عقلانية مرضية ” ).
السلوكات التي هي عواقب اضطرابات التفكير وعدم انتظامه تضحي بدورها غير منظمة و لا منتظمة ؛ فالحركات غير متلائمة مع الوضعيات أو السياقات ، كالتجول في عز الصيف بملابس الشتاء وعدة التزلج على الجليد ، أو التسكع بلا هدف في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار . إلى جانب هذا يمكن أن توجد السلوكات العدوانية والعنيفة. إن حضور اختلال هام في تنظيم السلوكات يشكل أحد العناصر التي تغذي أكثر من غيرها وصمة المرضى.

إن الميكانيزمات النفسية ـ المرضية التي تشكل البنية التحتية للمرض هي متعددة ، وتوجد عوامل خطورة أخرى مثل الوراثة ومحيط المريض. إن العوامل الجينية تلعب بشكل لا محيد عنه دورا في إمكانية الإصابة بالفصام ( السكيزوفرينيا ) ، حتى ولو لم يكن الأمر يتعلق بمرض جيني خالص . استعمال الكانابيس ، ولو أننا لا نعرف إن كان يتسبب في المرض أو يسرع الإصابة به ، التعرض لفيروس الزكام الموسمي خلال فترة الحمل لدى الأم ، معاناة الجنين من آلام أثناء الوضع ، التشوهات الحادة أثناء فترة النمو، تصدعات في الجمجمة خلال فترة الطفولة ، هي كلها عوامل مجرمة بهذا الخصوص ، وهو ما يدفعنا إلى القول إن المرض متعدد العوامل والأسباب.

****************************

إقرأ أيضا :

تشخيص المرض النفسي

فن تشخيص المرض

في الطب النفسي


إن اختيار علاج معين ، وكذا النظرة التي سيكونها المريض عن ذاته ، يتوقفان على تشخيص المرض ، وتلك مرحلة ملاحظة جوهرية وأساسية ، كما هي جد صعبة.

برونو فاليسار

بقلم : برونو فاليسار

ماذا يفعل الطبيب النفسي لإنجاز تشخيص لحالة مرضية ما ؟ .. للإجابة على هذا السؤال ، لا بد اساسا من التفاهم بخصوص المعنى الذي سنعطيه لكلمة ” تشخيص “، بيد أننا نجد بادئ ذي بدء أن هذا المعنى ليس موحدا بين كل المشتغلين بهذا الميدان؛ فتشخيص ما يمكن أن يتقابل مع نمط خاص من الخلل الحال باشتغالنا النفسي ، خلل موصوف انطلاقا من خطاطات نظرية . نتحدث أحيانا عن مقاربة فيزيائية أو سيكولوجية مرضية. وهكذا ، فإن الدراسات المنجزة على الحيوان أو الأعمال الناجمة عموما عن علوم الأعصاب تقترح نماذج نوروبيولوجية للأمراض العقلية، مع ما يكفي من المحاضر الإكلينيكية ذات العلاقة. ولقد أدرج التحليل النفسي مفهوم العصاب في حقل نظري قوي ، يحتل فيه موقع المركز مفهوم دينامية مسار الحياة ، وبعض الأطباء يدرجون ممارستهم التشخيصية في منظور مثل هذا ، لكنها ليست حال كل الممارسين.

يمكن أن يعتبر التشخيص أيضا وببساطة مجموعة من العلامات التي نصادفها مجتمعة في الغالب ( الحزن ـ عدم القدرة على الإحساس بالمتعة ـ الأرق وفقدان الشهية مثلا . . )، نتحدث حينها عن ” أعراض متلازمة ” تتخذ صفة المرض إذا كانت تحدد مسارا علاجيا وتمتلك قيمة تكهنات تشخيصية ، إنها المقاربة الأعراضية والسيميولوجية للتشخيص التحليلي ـ النفسي. وهذه المقاربة تتأسس على ملاحظات دقيقة تمت مراكمتها عبر القرون من قبل معالجين نافذي البصيرة بشكل خاص، وتصنيفات الحليل النفسي الأكثر شهرة حاليا [ DSM و CIM ] تنهض من هذه المقاربة.

معرفة الموضوع

يجب أن نضيف لهذا عنصران هامان مرتبطان بمفهوم التشخيص :

1)      لا يمكن تصور مرض عقلي ما دون وضعه في منظور ما يشكل المريض النفسي، وبخلاف الفكرة الأكثر فورية ومباشرة ، ليس المريض هو من لديه مرض ما ، والعكس بالعكس ، ومع جورج كانغيلم يعتبر اليوم أن المريض هو من يدق باب الطبيب ، أما المرض فهو بناء يساعد على التفكير وعلى التكفل بالمريض قصد علاجه.

2)      تقدم لنا الأمراض العقلية كما لو كانت كيانات واضحة ومتميزة ، في حين أن هنالك استمرارية فيما بين ما هو عادي وما هو مرضي ، لكن ما دامت الكلمات والعلاج يخضعان لمنطق صارم ، فقد أضحى التشخيص سمة لكل شيء أو لا شيء.

سنفهم إذن في هذه المرحلة أن الممارسة التشخيصية ليست متناغمة و لا قابلة للتفسير يوضوح في مجال الطب ، والطب النفسي على الأخص.

عمليا هناك نقطة جوهرية لا بد من تسجيلها ، لقد كانت المحاورة التشخيصية دائما محاورة إكلينيكية ؛ أي مقابلة شخص يطلب المساعدة من مختص يتمثل دوره في الاستجابة لهذا الطلب، وينتهي الطبيب النفسي من خلال  هذا التلاقي بين الطرفين إلى التعرف بشكل أفضل على محاوره ، وهو ما ليس ضروريا فقط للتكفل بالمريض ، وإنما يشكل أيضا جزءا لا محيد عنه من العلاج ذاته؛ فمعرفة أن شخصا آخر يتفهم نكبتنا هو بطبيعة الحال مصدر ارتياح عميم : لا يمكننا إذن اعتبار الحوار التشخيصي كما لو كان مستقلا عن العلاقة النفس ـ علاجية التي تقوم بفعل ذلك في ما بين الطبيب النفسي والمريض.

نموذجان من التواصل

إن هذا ” التعرف على الذات ” في المجال العملي دائما ، والذي ينحو نحوه الحوار التشخيصي ، يقوم عموما على تبادل نموذجين من التواصل؛ الأول يمكن وصفه بالتواصل الفينومينولوجي : حيث يعلق الطبيب حكمه ويمتنع عن إصدار أي حكم ، ويلتقط محاوره في ذاتيته  ، فيتشكل بذلك انطباع ومناخ بين الطرفين يمكن من الوصول والولوج إلى أكثر وجوه الحياة النفسية والاشتغال النفسي اختفاء .

المقاربة الثانية هي مقاربة سيميولوجية ، وتتمثل في البحث عن العناصر الإكلينيكية ( أفكار الموت ـ الأرق ـ الهلوسات . . . الخ ). إن تركيب هذين النوعين من المعلومات ، وإدراجهما (أو عدم إدراجهما) في كنف الحقل النظري ، ووضعهما في نفس المنظور مع التمثلات التي كونها الطبيب خلال مدة زمنية معينة ، كل ذلك يقود بشكل تدريجي نحو تبلور وبروز التشخيص بكل تلاوينه وحدوده.

*****************************

إقرأ أيضا :

الهلوسة

حضور مشاهد أو سماع أصوات لا وجود لها، وكذا تأويل التجربة الحياتية والخبرات بشكل لاعقلي، هي ظواهر يمكن أن تعاش ، خلافا لما هو رائج ، في عدد متعدد من الأمراض.

بقلم : رونو جاردي وبيير توماس

عن الملفات الكبرى لمجلة العلوم الإنسانية رقم:20

الهلوسة

سماع أصوات ورؤية أشياء ووجوه أو حيوانات ، في الوقت الذي لا يدرك فيه أي من المحيطين بالمريض هذه الأشياء ، و لا يوجد ما يطابقها أو يوحي بها في محيط المريض ، هو ما يمكن أن تكون عليه الهلوسة.إنها تجربة ذاتية وحميمية من بين التجارب الأكثر غرابة.

إن الهلوسات يمكن أن تتعلق بكل الحواس ( البصر والسمع والشم والذوق واللمس ) ، غير أنها نفسية في ذات الوقت ، عندما يكون لدى الشخص شعور بأن بعض أفكاره هي أفكار غريبة عنه أو مفروضة عليه من قبل قوى خارجية . والهلوسة تعرف عادة بوصفها إدراكا بدون موضوع مدرك ، ويتميز عن الوهم الذي هو إدراك مشوه لموضوع واقعي وعن الهلاووس أيضا الذي يكون فيه المريض واعيا بأنه يدرك شيئا لا معنى له.

فقدان الاتصال بالواقع

إن الهلوسة المعاشة بدون أي نقد ستؤدي إلى الانخراط الكلي للذات وتتسبب في حدوث الهذيان ، وهذا الأخير يعرف بوصفه اضطرابا لمحتوى الفكر يحدث فقدانا لعلاقة المريض بالواقع واتصاله به. والهذيانات موسومة بأفكار هي في خلاف وتناقض واضح مع الوقائع الملاحظة ومع المعتقدات السائدة في سياق ثقافي معطى . وبجانب الميكانيزمات المهلوسة ، يمكن للهذيانات أن تكون أيضا تأويلية ، متخيلة أو حدسية، وتتقابل هذه الميكانيزمات مع معتقدات ناجمة عن تفكير مغلوط ، في حين أنه في مجال الهذيان المهلوس تقوم المعتقدات على قاعدة مدركات مغلوطة.

في حالة الهذيان الهلوسي يمكن أن يظهر نقد صادر عن الذات عندما تختفي الهخلوسات أو تخف حدتها ، على النقيض من التفكير المغلوط الذي يمكن أن تستمر فيه الأفكار الهذيانية لمدة طويلة مسمرة في تفكير الذات.

إن الهلوسات والهذيانات الهلوسية يمكن أن تظهر في أنواع كثيرة من الوضعيات ، والتجربة الهلوسية تلحق الاضطراب بإدراك العلم من خلال اجتياح الأفكار وتحوير ملكة الحكم وإلحاق الفوضى بالسلوك. وسلوك الذات المهلوسة منظورا إليه من طرف ثالث ، يبدو غير متماسك وغير متكيف ؛ فالمريض يمكن مثلا أن يتحدث إلى شخص متخيل ، أو يقلد حركات غير لائقة ، أو يعبر عن عواطف فياضة ومتأججة . طريقة الإصغاء أو النظرة الملحة أو المفزعة والمجهة نحو مشهد غير مرئي كلها أيضا علامات على الهلوسة.

وعندما تستقر هذه العلامات بشكل مستديم ، وتلك حالة ثلث المرضى الذين يعانون من الفصام ( الشيزوفرينيا) ف، الذات تصارع تأثير هذه العلامات بمجهودات فكرية وعاطفية هائلة ، مما يصيبها قدراتها الخاصة على التفاعل مع محيطها بالخلل.

مقاربتان تصوريتان

يمكن حسب الثقافات أن تنسب الرؤى والأصوات لقوى فوق طبيعية أو لتمظهر صوفي أو لفعل من أفعال السحر ، ولم ينظر إلى الهلوسات باعتبارها ظواهر مرضية إلا في بداية القرن 19 ، أي عند ميلاد ما أضحى يسمى الطب النفسي ، وإيتيان إيسكيرول كان هو أول من جمع تحت نفس الإسم كل الهلوسات الآتية من حواس مختلفة ، مستدعيا بالإضافة إلى ذلك أصلا عصبيا ممكنا لهذه الظاهرة. ولقد نشأت بهذا الخصوص، وبشكل تدريجي ، مقاربتان تصوريتان كبيرتان هما : مقاربة الطب النفسي التي أعطت بادئ ذي بدء الأولوية لأصل مرضي متميز عن الإدراك العادي ، والمقاربة السيكولوجية التي اقترحت اتصالا واستمرارا في ما بين الإدراك العادي والإدراك المرضي ، أي الوهم والهلوسة.وقد مكن تطور مناهج الاكتشافات العصبية من تجاوز هذا التعارض : فقد أعادت هذه المناهج صياغة الفرضيات انطلاقا من ملاحظة العيوب المورفولوجية والوظيفية لمخ المريض المعاني من الهلوسات المزمنة، وتتضمن المقاربة العلاجية لهذه العلامات عدة محاور تكميلية كانت أحد خطواتها التاريخية الحاسمة اكتشاف أدوية مضادة للذهان في الخمسينيات تمكن أحيانا من إخماد عجيب لحدة الهلوسات أو الهذيان الهلوسي ، كما مكنت خطوات التقدم في مجال الصور خلال العشر سنوات الأخيرة ، وفي مراكز علاج متعددة ، من تطوير صيغ علاجية جديدة واعدة عن طريق تعديل النورونات Neuromodulation.

**************************

إقرأ أيضا:

البارانويا أو الهذيان المتماسك

يؤول المصاب بالبارانويا الأحداث الواقعية تبعا لسيناريو جد مستبعد ، لكنه مبني ومشيد بشكل دقيق ، إلى حد أن المصابين بهذا النوع من المرض يتمكنون أحيانا وينجحون في إقناع المحيطين بهم . .

كلودي بيرت

بقلم : كلودي بيرت

ملفات مجلة العلوم الإنسانية الكبرى رقم : 20

شتنبر -أكتوبر – نونبر2010

مرض البارانويا

لفظة بارانويا Paranoïaمشتقة من الكلمتين الإغريقيتين « Para » [” بجانب”]و « nous »[“العقل “] . واليونانيون كانوا يدعون « Paranous » كل أولئك الذين يبدو عليهم خلل في العقل أو هم مجانبون له. ولقد عاد هذا اللفظ ليظهر بقوة في القرن 19 لدى علماء النفس الألمان للإشارة إلى هذيان العظمة أو الشعور بالاضطهاد.وقد عرفه إميل ترابلين سنة 1904 بأنه هذيان منظم متميز عن الهذيان الذي نجده لدى الفصاميين؛ فالمصاب بالبارانويا لا يرى بالفعل فيلة وردية أو ذات أجنحة، لأنه يدرك الأشياء والأشخاص والأحداث كما هي في الواقع ، غير أنه يؤولها تأويلا هذيانيا.

في DSM-IV الأمريكي ، كما هو الحال في CIM-10 لدى المنظمة العالمية للصحة تصنف البارانويا في خانة ” الاضطرابات الهذيانية ” المستدامة و ” المقبولة non bizarres ” ؛ أي أنها مرتبطة حقيقة بأوضاع يمكن أن نصادفها أو لا نصادفها.

ويمكننا أن نميز بين مختلف التصنيفات المندرجة في خانة البارانويا حسب مجال الهذيان : بارانويا الاضطهاد ، وهو المتوافر والمتواجد بشكل كبير، أو بارانويا الغيرة ، أو بارانويا المس الشبقي أو الولع الجنسي ( المريض فيه مقتنع بأن محبوب من قبل أحد معارفه أو أنه مشهور ) جنون التعاظم ( فالمريض يرى أن لديه مهمة تتمثل في إنقاذ الإنسانية) أو المريض بالوهم أو المصاب بوسواس المرض ( يعتقد أنه مصاب بجميع أنواع الأمراض والآلام).

توجد فيما بين هؤلاء المرضى ،رغم اختلاف أمراضهم، قواسم مشتركة ؛ فقدراتهم العقلية تظل سليمة ، ويظل سلوكهم عاديا خارج مجال مرضهم ، حتى أنهم يحافظون دوما على نشاطهم المهني عاديا ، فهذيانهم متماسك ، وتبدو طريقة تفكيرهم أحيانا جد معقولة ومقنعة، كما يملكون القدرة أحيانا على أن يظهروا أكثر قدرة على إقناع أشخاص آخرين بهذيانهم ، وعلى الأخص أزواجهم أو زوجاتهم ، حيث يتم الحديث في هذا الحالة عن ” حمق مزدوج ” ، وأحيانا يتمكنون من إقناع كافة الأسرة أو مجموعة بشرية بأكملها : فألغور جيم جونس نجح في جر كافة أعضاء معبد الشمس إلى غابة غويانا ونجح في إقناع أعضائه ال 914 بأن الانتحار معه هو أفضل بكثير من العيش في عالم شيطاني.

من حالة السواء إلى حالة الحمق

نحن هنا في مجال الهذيان ، مجال الحمق ، ومع ذلك فالنعت ” paranoïaque ” وبصيغته المختصرة بارانو  « Parano » مستخدم بشكل دارج ؛ويجد هذا التبسيط تفسيره في كون أننا نلتقي  بردود الأفعال المنتمية لهذا المرض في طرفي سلم الدرجات الطويل الذاهب من الحالات السوية إلى الحالات المرضية.الحالات السوية :ردود أفعال  (الحساسية المفرطة ) في الوضعيات التي نشعر فيها بالضعف : تلميذ جديد ، مستخدم جديد … خطوة زائدة إلى الأمام فنجد الأشخاص الذين لديهم خاصية أو خاصيتان من خواص المرضى بالبارانويا : فهم يعتقدون دائما أن الآخرين يريدون خداعهم وخيانتهم ، ويريدون دائما أن يكونوا هم أصحاب الحق… إلا أن هذه نزوعات موجودة ، ونحن لحد الآن لا زلنا في مجال الحالات السوية.خطوة أخرى فنغادر هذا المجال : ف ” الشخصية المرضية لدى المريض بالبارانويا ” هي مصنفة من قبل موسوعات علم النفس ضمن ” اضطرابات الشخصية ” ،والسمة التي تضعها هذه الموسوعات في المقدمة وتعطيها الصدارة، هي الحذر الذي يمارسه المريض اتجاه الآخرين كلهم ، هذا الحذر الذي يتفاقم بفعل كونه ” يجعل من ذاته بشكل دائم وأبدي مرجعية إصدار الأحكام ، وكل ذلك مصاحب بشكل خاص جدا بإعلاء متزايد ومتضخم لقيمته وأهميته هو كشخص” ، وإذا ما استخدمنا عبارات   CIM-10 : إذا ما أخطأ بقال في الحساب وهو يعيد لهذا المريض ما تبقى من النقود بعد استخلاص ثمن البضاعة، فإن المريض يعتبر ذلك عملا مقصودا وليس بريئا ، وإذا ما حكى أحدهم نكتة تتعلق بشخص ما ، فإن هذا الحاكي يقصده ويستهدفه هو بالذات. إن هذه السمات تسيطر على الشخصية وتظل قائمة ، بل تتزايد قوتها لأن الواقع يتدخل ليؤكد ادعاءات المريض بالبارانويا: إنه يبدو كثير التشكك إزاء المحيطين به حتى يدفعهم للابتعاد عنه ، وهو فظ السلوك إزاءهم مما يجعلهم يتحولون إلى أشخاص يمارسون الفظاظة إزاءه أيضا.

وفي نهاية المشوار نصل إلى مرحلة الهذيان: فالمريض يكون قد شيد لنفسه عالما ، هو بالنسبة له ، العالم الحقيقي والواقعي الوحيد، و لا يمكن لأي برهان كيفما كان أن يجعله يشك في معتقده ذاك.مثالان مرتبطان بالغيرة يجعلانا نفهم بشكل أفضل الفارق بين ” شخصية البارانوياك ” و اضطراب البارانويا الهذياني”:

  1. عمر طلب من طبيب نفسي مساعدته على التخلص من الغيرة؛ فمنذ أن أصبح لدى صديقته زميلان في العمل وهو يشك في أنها تقيم علاقة مع أحدهما، وهو لا يستطيع أن يمنع نفسه من تعذيبها بأسئلته وشكوكه.وقد انتقل أحد زميلي صديقته إلى مصلحة أخرى ، فشعر عمر بالاطمئنان … لكنه رأى صديقته تتبادل أطراف الحديث مع الزميل الآخر المتبقي: فعاد من جديد إلى الغرق في دوامة غيرته. ” غير أنه ليس متأكدا بشكل لا يقبل الشك و لا يشيد سيناريوها هذيانيا يمكن أن يوافق عليه بدون شروط [1]“.
  2. بوليس النجدة جاء إلى المستشفى برجل قام بضرب زوجته بعنف ، فاستجوبه الطبيب النفسي :

” لماذا ضربتها ؟..”

” إنها تخونني منذ عدة أشهر ”

” لماذا تضربها اليوم بالضبط ؟ ..”

” أمس مساء ادعيت أن لدي اجتماع عمل وخرجت من البيت ، وكنت قد وضعت جهاز تسجيل تحت السرير ، والآن لدي الدليل على خيانتها.”

ثم شغل جهاز التسجيل ، فلم يصدر أي صوت عنه .

” إذن ؟ .. ” صاح في وجهه الطبيب النفسي ، لكن المريض أجاب مهللا منتشيا بانتصاره :

” لقد أخذا حذرهما بطبيعة الحال فلم يتكلما ” [2]

إن لدى زوجته عشيقا ، و لا أحد يمكن أن يجعله يشك في هذا الاقتناع ، إن هذيانه يتطور بشكل ” شبكي ” أخطبوطي: فكل حدث يؤول باعتباره دليلا على خيانة الزوجة ، وكل شخص مرتبط بهذا الحدث ينظر إليه باعتباره شريكا أو متهما.

من أين تأتي البارانويا؟..

إن الميكانيزم الأساسي الذي تعطاه الأولوية من قبل المحللين النفسيين بخصوص مرض البارانويا هو الإسقاط: ” إن تصورات المرضى عن أنفسهم هم ذواتهم هو ما يبدو لهم و ما يعتبرونه لا يطاق وغير قابل للتحمل (…) ومن يعتقد أنه تصرف بشكل غير عادل يقول عن نفسه إنه ضحية ومضطهد [3]” لقد كان فرويد على الأخص هو من قام بتجريم رفض الاعتراف بالميول الجنسية المثلية لدى المريض من خلال هذا التحليل : ” ليس أنا من يحب الرجال ، إن زوجتي هي التي تحبهم”،  الإدمان على الكحول في هذه الحالة هو حاضر في غالب الحالات.ولقد لاحظنا أيضا وجود نسبة مائوية أكثر ارتفاعا من الفصاميين في كنف أسر المصابين بالبارانويا ، لنضف أيضا أن شخصية مصابة بالبارانويا يمكن أن تتطور في اتجاه الهذيان الفصامي.

هوامش :

[1] D.GUYONNET et G.Texier Les Paranos , mieux les comprendre,Payot, 2006

[2] H. LÔo et J.-P. Olié,Cas cliniques en psychiatrie, Flammarions, 1992.

[3] S. de Mijolla-Mellor,La Paranoia, PUF,coll « Que sais-je ? »,2007

DSM-IV معطى إحصائي يشير إلى أن هناك في المجتمع ما بين 0,5÷ و 2,5 ÷من الشخصيات المصابة بمرض البارانويا.

نسبة مرضى البارانويا الهذيانيين هو أقل بكثير 0,04 ÷ حسب DSM-III ويظهر هذا الهذيان في المراحل الأخيرة من العمر (في سن الأربعين ) ، توزع المرض فيما بين الجنسين يختلف تبعا للأنماط المندرجة في إطار مرض البارانويا : فهذيان الاضطهاد نجده لدى الذكور أساسا ، أما الهوس الجنسي فيصيب الإناث أساسا.

هل يشكل المرضى بالبارانويا خطرا على الناس ؟ .. نعم ، يمكن أن يكونوا كذلك ، وقد قدرت دراسة أجريت على المرضى العقليين بوحدة الأمراض الصعبة UMD بكاديلاك أن ثلث الأفعال العنيفة المرتكبة من قبل المرضى العقليين كانت صادرة عن أولئك المصابين بالبارانويا .

ومع ذلك ، وحسب بحث نشر في الدراسة المذكورة أعلاه فإن ” 27,5 ÷ من جرائم القتل المرتكبة من طرف المرضى العقليين كانت متوقعة وأن 65 ÷ منها كان يمكن تحاشيه” بفعل علاجات نوعية ودراسة جادة لمسألة الخطورة.إن مرضى البارانويا الهذيانيين يعودون في الغالب لارتكاب نفس الجرائم ، وهم بعد ذلك لا يندمون مطلقا : فالضحية كانت تستحق ذلك بالفعل …

علاج المرض

هل يمكن معالجة المريض بالبارانويا؟ وهل يطلب المريض بنفسه العلاج ؟.. فذاك ما يفعله إلا ناذرا . ومع ذلك ، وفي حالات اضطراب الشخصية يحدث أن يستشير المريض طبيبا نفسيا ، وذلك لأنه يعاني ويتألم جراء مرضه ، أو لأن المحيطين به يلحون عليه في استشارة الطكبيب ، أو لأنه تنبه إلى إمكان فقدان مكانه أو وظيفته. الحالات الأخرى هي حالات المرضى الذين يتم علاجهم قسرا بعد قيامهم بأعمال عنف.

كيف يتم العلاج ؟..

ينطلق العلاج بمهدئ للأعصاب Neuroleptique، وعندما يختفي الهذيان ، يمكن توجيه المريض نحو علاج نفسي ( علاج سلوكي وإدراكي أكثر منه علاجا قائما على التحليل النفسي).

إن المعالج يحاول إفهام المريض وجهات نظر الآخرين ، لكنه إن أسرع في الأمر فإنه إما سيتحول في نظر مريضه  إلى مضطهد آخر ينضاف إلى زمرة مضطهديه ، وإما أن المريض سينهار ويتبرأ من كل القيم ، ومن ثمة فالعلاج يعرف صعوبات جمة ، لكنه يمكن أن ينجح. C.B

Paranoiak sur Comme Au Cinema

http://www.commeaucinema.com/flvplayerprx.php

*****************************

إقرأ أيضا :

التحليل النفسي

مدرسة التحليل النفسي

إن تقسيم الحياة النفسية إلى حياة نفسية واعية وحياة نفسية لا واعية ، كتب فرويد (1856 ـ 1936 ) ، يشكل المقدمة الكبرى والأساسية في التحليل النفسي ” (” محاولات في التحليل النفسي” ، 1927 ).

♦       المكانان الفرويديان الإثنان.

لقد قدم فرويد على التوالي وصفين ” مكانيين ” ( من اليونانية Topos ، المكان ) للجهاز النفسي:

♦ المكان الأول المعروض في الفقرة 411 من ” تأويل الأحلام ” (1900) يميز ما بين ثلاثة “أنظمة: اللاشعور ـ ما قبل الشعور ـ الشعور.

♦   المكان الثاني ( الذي ظهر انطلاقا من سنة 1920 ) يمكن من تدخل ثلاث “قوى” :

  • في الهو تتحرك اندفاعاتنا البدائية ؛ وكل السيرورات الحادثة به تظل لا شعورية ” (فرويد ” موسى والتوحيد ” ، 1939 ) ، يخضع الهو إذن لمبدأ اللذة.

إقرأ كتاب : موسى والتوحيد

  • القوى المتبقية هي ـ الأنا ( مركز ” دفاعي ” للشخصية ) والأنا الأعلى ( امتصاص المطالب والمحرمات الأبوية ) وهما تحويران يطالان الهو أمام مطالب الواقع.

ملحوظة : الأنا والأنا الأعلى هما في جزئهما الأعظم لا شعوريان أيضا.

الفلتات ، الأحلام والعصاب

يحب فرويد أن يقدم عن الحياة النفسية تمثلا ديناميا ( من اليونانية : Dunamis ، القوة ) ، ” إن الحياة النفسية حقل صراع وحلبة تتصارع بداخلها النوازع المتعارضة ” ( “مدخل للتحليل النفسي ” 1916 ـ 1917 ) . و ” إذا كانت بعض التمثلات غير قادرة على أن تصير شعورية ، فذلك بسبب قوى معينة تعترضها ” ( ” محاولات في التحليل النفسي ” ، 1920 ـ 1923 ) .

الفلتات أو الأفعال المخطئة لأهدافها يقول فرويد ” هي أفعال نفسية لها معنى ومصحوبة بنية ” ( ” مدخل للتحليل النفسي ” 1916 ـ 1917 ) ، ففلتات اللسان أو القلم والأفعال الطائشة والنسيان غير المبرر . . الخ ، كلها تخون وتفضح في الغالب وبالفعل أسرار الشخص الأكثر حميمية، إن مظهرها الغريب يأتي من كونها ” نتاج لتداخل قصدين مختلفين ” ( نفس المرجع السابق ) .

وهكذا ، ففي الفلتة التالية ( وهي مثلا فلتة لسان رئيس غرفة المستشارين النمساويين الذي افتتح الجلسة بقوله : ” رفعت الجلسة ” ) نجد أن النية المكبوتة استطاعت أن تفلت وطفو على السطح عن طريق اختلال الخطاب العادي. ولكونها تكوينا تراضيا فإن الفلتة أيضا تبعا لذلك تكوين استبدالي وتعويضي ( أي بديل ) للخطاب المحرم من قبل القواعد الاجتماعية ( والتي كان من الممكن أن يكون الخطاب تبعا لها كما يلي : ” أنا جد متعب ، وليست لدي أية رغبة في ترؤس الجلسة .. . ” .

  • الأحلام :

يبدو الحلم بفعل خاصية تفكك أطرافه “ لغزا سحريا ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) ، لكننا نجد في ما وراء ” نص ” الحلم

( ” الحلم الظاهر ” أفكارا مستترة ورغبات لاشعورية ؛ ذلك أن عمل الحلم (أو البناء الحلمي ) يقيم تراضيا في ما بين نزوعين متعارضين في الجهاز النفسي ( في ما بين رغبات لا شعورية وقوى نازعة نحو حظر هذه الرغبات). إن الحلم تبعا لذلك حسب فرويد هو تحقيق وسواسي لرغبة.

إن أمراض العُصابتبدو إما أنها بدون دوافع وإما أنها لا معنى لها ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) . إن العُصاب يترجم بطريقته الحضور المتسلط للرغبة المرضية ( وهكذا فإن آنا التي ترعى أباها المحتضر كانت موزعة لاشعوريا بين حبها لأبيها ورغبتها في الحرية ). إن العلامات العصابية ( الهيستيريا ، الفوبيا ، الأفعال القهرية . . . الخ ) تشكل إذن بدورها إبدالات مرضية وجد مشوهة بالتأكيد ـ تتحاشى التعبير عن رغبة مكبوتة.

إن العلامات العصابية […] هي […] علامات على المكبوت ، تكوينات تسمح للمكبوت بالنجاح أخيرا في اقتحام الشعور الذي كان محرما عليه ( ” ميتا ـ سيكولوجيا ” ، 1915 ). إننا نسقط صرعى الأمراض حتى نستطيع الحصول بواسطتها على بديل عن الملذات التي تحرمنا منها الحياة ، وهي كلها ” علامات مرضية ” مشكلة ” لجزء من النشاط الجنسي لدى الشخص [ المريض ] أو لمجموع حياته الجنسية ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) . وهكذا فإن التأثير الأول لمرض آنا تمثل في جعلها غير قادرة على علاج أبيها لمدة طويلة . . .

ثلاثة مبادئ جوهرية للتحليل النفسي

  • كل الطاقة النفسية مشتقة من الليبيدو

إن الطاقة الجنسية حسب التحليل النفسي مشتقة بكاملها من الغريزة الجنسية ، والأنا والأنا الأعلى ليسا إلا تحويرات للهو أمام الواقع . ليس هناك إذن إلا الطاقة التي هي جنسية من حيث أصلها والتي تحملنا عن طريق التصعيد والتسامي على السعي نحو أهداف ” راقية اجتماعيا ” ( الشغل ـ الفن . . . الخ ) بدل السعي نحو مجرد المتعة الحيوانية .

  • هناك جنسية طفولية

إن الحياة الجنسية لدى الفرد تتجاوز بكثير حسب فرويد إطار نشاطه الجنسي : فالحياة الجنسية تبدأ مع الطفولة المبكرة وتغلف أشكال الحياة العاطفية الأشد تنوعا .

وهكذا ، فإن ” الحركة الإيقاعية والمتكررة للشفتين ” التي يمارسها الرضيع ، وعملية الامتصاص لدى الأطفال ، تعرف باعتبارها ” نشاطا جنسيا ” ( ” ثلاث محاولات في نظرية الجنس ” 1905 ) . إننا سنكون مخطئين بعبارة أخرى إذا ما اعتقدنا ( أو أردنا أن نعتقد ) أن ” الاندفاع الجنسي […] لا يستيقظ إلا في مرحلة البلوغ ” ( نفس المرجع ).

وهذه الجنسية الطفولية تمر تباعا بثلاثة مراحل :

  1. المرحلة الفمية ( السنة الأولى )
  2. المرحلة السادية ـ الشرجية ( من السنة 1 إلى السنة 3 )
  3. المرحلة القضيبية ( من السنة 3 إلى السنة 5 ).

وبعد مرحلة كمون للجنسية ( من سن 6 إلى 11 تقريبا ) يكتمل التنظيم النفسي عند لحظة البلوغ خلال مرحلة رابعة هي المرحلة الجنسية ( أو مرحلة المراهقة ).

·       التمييز بين الحالة السوية والحالة المرضية مسألة جد نسبية

لقد اعترفنا بأنه يستحيل علينا عمليا أن نضع خطا فاصلا بين الحالات السوية والحالات غير السوية ” ، كما كتب فرويد في “موسوعة التحليل النفسي ” ، 1938 ).

ليس للأمراض العصابية أي محتوى نفسي خاص لا يمكن أن نصادفه لدى الأشخاص الأسوياء ، ومن ثم فإن التحليل النفسي يدعونا أيضا لمراجعة مواقفنا المشتركة اتجاه المرضى العقليين.