Tag Archives: الإشتراكية-الديمقراطية المخوصصة

الإشتراكية ـ الديمقراطية المخوصصة

  •  بقلم : جوزي فيدال – بينيتو *
  • عـن : لوموند ديبلوماتيك ، عدد يوليوز 99

يعتبر البيان الأوربي : الطريق الثالث ، الوسط الجديد ـ الذي أطلقه يوم 8 يونيه الأخير بلندن (1) كل من السيدين بلير وشرودر عملية ذات أهمية سياسية كبرى وذات مرام انتخابية بالأساس . إن انحسار النزعة الليبرالية الأصولية التي لم تترجم بعد من خلال إعادة البناء لقوى اليمين في بناء متماسك تترك شريحة متوفرة من الناخبين الذين لم يتوصلوا إلى تحقيق رضاهم الذاتي سواء بفعل غياب الحس الاجتماعي في الاقتراحات النيوليبرالية أو من محتوى برامج الديمقراطيين المسيحيين القديمة ، ومن ثمة فسيكون هناك منجم هام للأصوات وفضاء سياسي يعتقد الزعيمان الاشتراكيان الديمقراطيان في قدرتهما على لهفه مع حد أدنى من مخاطر الخسارة بالنسبة لكاهلهما اليساري .

وحسب هذين الزعيمين ، فإن الرأسمالية التي استندت من جهة إلى اقتصاد السوق الذي لا يمكن تعويضه ، والمقاولة الخالقة للثروة من جهة أخرى تشكل الأفق الوحيد الممكن بالنسبة للقرن الواحد والعشرين . كما يعتقدان بأن لا خوف لديهما من منافسة اختيارات شيوعية واشتراكية محتملة ستكون منذ الآن غير متطابقة مع المجتمعات الحديثة .

يتعلق الأمر كما يقولان بالتخلي عن راديكالية كل من اليسار واليمين اللتين أصبحتا غير متوافقتين مع تعقد الواقع المعاصر وإنشاء طريق ثالث كفيل بإعادة توسيط الاشتراكية الديمقراطية من خلال تقديمه لاقتراح سياسي مؤسس على قيم جديدة : قيم الحداثة والبراجماتية ، نهاية المساواة كهدف دائم والدولة كدعامة مركزية للعدالة الاجتماعية ، إنعاش التوافق كميكانيزم ذا أفضلية للحياة السياسية ، تشجيع الابتكار والمبادرة الفردية كأداتين حاسمتين للتقدم الفردي والجماعي .

لقد بدأت الصيغة الجديدة ، يؤكد السيدان بلير وشرودر ، في البرهنة على فعاليتها الانتخابية في المملكة المتحدة وألمانيا ، ومؤخرا بإسرائيل ، وستنتهي بأن تفرض ذاتها في كل مكان لأنها عرفت كيف تتجاوز تصلب وبدائية الاشتراكية الديمقراطية العتيقة .

وفي ما وراء تفكك أفكار كهاته ـ والتي يفسر تناقضها المطلق بدون شك مع النقط الإحدى والعشرين للبيان الأوربي للأحزاب الاشتراكية الموقع بميلانو منذ ثلاثة أشهر الفشل المفجع للسيدين بلير وشرودر في الانتخابات الأوربية الأخيرة بتاريخ 13 يونيه ـ فإن من المهم أن نسجل أنهما وضعا حدا نهائيا لتوق الاشتراكية الديمقراطية لاقتراح جواب قوي من طرف اليسار على التعايش الصعب في ما بين النظام الرأسمالي والأنظمة الديمقراطية .

فليس هذا التعايش ملازما أبدا للديمقراطية كما يدعي الفكر الليبرالي ذلك ، إنه يفترض من جهة أن التناقض محلول في ما بين تراكم الرأسمال ، المطلب الأساس للرأسمالية الذي يقود بشكل لا يمكن تحاشيه نحو تمركز الثروة والسلطة الاقتصادية في أيدي حفنة صغيرة من الأفراد ، وشرعنة النظام عبر إعادة توزيع تجعل هيمنة الأغنياء هيمنة مقبولة من طرف غالبية الناس من جهة أخـرى .

إن هذا التناقض يكون مخنوقا خلال الفترات الاقتصادية للنمو التي يتوافق خلالها تعويض عال للرأسمال مع التشغيل التام والارتفاع في الأجور والتعاظم المستمر للاستهلاك . لكنه يتفجر خلال دورات الركود والتراجع ، خاصة إذا لم تكن الدولة ذاتها في مستوى تغطية أوجه النقص . خلال فترات الأزمة هاته فإن الميثاق الاجتماعي في ما بين عالم الشغل ( الممثل من قبل النقابات ) والمقاولات والدولة يجد صعوبة في الاشتغال .

لقد أحالت الأزمة الاقتصادية وتعاظم البطالة خلال السبعينيات عالم الشغل هشا ، وأضعفت التوازن السياسي المهيمن بالغرب ، وخاصة التعايش الصراعي ، لكن المثبت في ما بين الرأسمال ، الشغل والدولة . وفي نهاية الثمانينيات مارس سقوط جدار برلين وتحجر الماركسية على أحزاب اليسار تأثيرا مزلزلا .

لتسقط الدولة ـ الحامية

إن لأحزاب الاشتراكية التي لم تمارس بعد الإنكار العلني للماركسية لمدينة باد – جوديسبرغ (2) تتعجل متحرقة لفعل ذلك ، وقد تعمم إضفاء طابع الاشتراكية الديمقراطية على الاشتراكية . ولقد قطعت أحزاب اليسار ، الواحد تلو الآخر ، العلاقات التي تقيمها والتي كانت لا تزال قوية مع المنظمات النقابية : البرتغال ، إسبانيا ، إيطاليا … الخ ، خروج إذن من عالم الشغل . غير أن هذا الانقطاع للعلاقات يفقر القاعدة الحقيقية للاشتراكية الديمقراطية ويزيد من تبخر التصويت ، ويضعف مصداقية مشروع التغيير الاجتماعي ، ويختزل الأحزاب الاشتراكية مقلصا إياها إلى مجرد مشاركين في التدافع الانتخابي منشغلين فقط ، كالآخرين ، بالغزو السياسي للسلطة .

ولأن الدولة اعتبرت دائما من طرف بعض المواطنين ( الليبراليين والفوضويين ) بناء غير فعال ، مبذر وقامع ، فقد نظر إليها وقد طفحت في هذه السنوات الأخيرة ، سواء من الأسفل ( بفعل الاستقلال الذاتي لأكثر فأكثر من الجهات والمدن ) أو من الأعلى ( بسبب بناء فضاءات ماكرو سياسية كالاتحاد الأوربي ) . وكثيرون ساورتهم فكرة وضعها جانبا بدعوى أن الشمولية ستكل إليها الضربة القاضية من خلال إحالتها غير صالحة لأداء أدوارها ومهامها .

وما هو ذو دلالة أكبر في البيان النيوليبرالي للسيدين بلير وشرودر هو الطمأنينة والجذرية التي يصرحان بها بأن كل أولئك الذين أعلنوا منذ عشرين سنة عن موت الاشتراكية الديمقراطية (3) كانوا على حق . وهما يقدمان حججا ضعيفة وواهنة بشكل مروع ؛ حججا لا يجب البحث عنها في البيان ذاته ، وإنما في كتابين ألفا من أجل توفير متكأ نظري لتنصلهما وتبرئهما (4) ؛ أحدهما بعنوان الطريق الثالث the third way (5) هو لأنتوني جيدنس مستشار السيد توني بلير ، والآخر بعنوان القفزة الجديدة ، سياسة الوسط الجديد (6) وهو من تأليف بودو هومباخ وزير رئاسة الحكومة الألمانية ، قريب من السيد جيرهارد شرودر الذي كتب مقدمة كتابه .

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

إن هذين المؤلفين يلجآن من أجل توضيح مآزق الاشتراكية الديمقراطية إلى نقد لا هوادة فيه لركائز هذا التيار السياسي : عالم الشغل ، الحركة العمالية ، النقابات ، الدولة ، وبالأخص الدولة – الحامية ، التي يعتبرونها مسؤولة عن الركود الحالي .

إن هومباخ يعيد تناول صيغة قديمة تقول : يجب فك الحصار عن المجتمع . ويطالب جيدنس من جهته بتحديث إلى ما لانهاية … وبصفته رئيسا حاليا لمعهد لندن للاقتصاد وأحد السوسيولوجيين المشهورين على مستوى البسيطة ، فهو لا ينكب إلا بالكاد على مسألة الشغل ، وهذا اللفظ من جهة أخرى لا يبدو له أي أثر حتى في المعجم النهائي للمصطلحات بكتابه ، حيث لا  يظهر إلا مقترنا بمصطلح ” السوق ” . وبالنسبة لجيدنس ، كما هو الحال بالنسبة لهومباخ ، فإن كل مشاكل الشغل تختزل إلى مشاكل سوق الشغل بوصفه المجال الذي يلتقي فيه كل من العرض والطلب ويتلاءمان مع بعضهما تبعا لمطالب الاقتصاد . إنه من غير المجدي إذن ، في أعين هذين المؤلفين ، الاستمرار في الحديث عن مواجهات في ما بين الباطرونا والمأجورين . وما دامت الطبقة العمالية ستختفي في جزئها الأعظم فإن كتلة الطبقة العمالية ستتوقف عن أن تشكل سندا للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، وسيكون للاستقطاب الانتخابي يمين / يسار أقل فأقل من المعنى ، أو سيستجيب لمعايير ذات تعقد مغاير .

ومن خلال إعادة اعتماد الحجج الاجتماعية – الليبرالية يؤكد أنتوني جيدنس أن من شأن الحركة العمالية أن تكون قد عوضت نهائيا بحركات اجتماعية جديدة ستكون وستمثل الفاعلين الحقيقيين للحركة الاجتماعية المعاصرة . وأيضا فإن النزعة الدرامية لصراع الطبقات ستعقبها ديناميكية الإدماج / الإقصاء . وجيدنس بهذا الخصوص لا يتردد عن تأكيد أن الإقصاء بإفراط ؛ أي أن إقصاء الشرائح العليا للمجتمع هو أيضا سلبي كما هو إقصاء الشرائح الدنيا ؛ يتوجب إذن تحاشي أن تستهدف إجراءات الدمج خاصة ، أو بشكل أولوي ، الجماعات الأقل محظوظية ، وذلك لأن من شأن هذا الإجراء أن يحدث التفرقة من خلال تشجيعه للميل النابذ لدى الطبقات الحاكمة والتي سيكون دورها في تقدم المجتمع دورا أساسيا .

إن المقاولة وقيمها الأكثر تمييزا لها عن غيرها ـ التنافسية وخلق الثروات ـ مطالبة ، يقول جيدنس ، بأن تلهم سلوكنا وبأن تبصق على المواقف والسلوكات الكلاسيكية الباردة ـ الضمان وإعادة التوزيع ـ لدى الاشتراكية الديمقراطية القديمة . يجب أن يتم تقاسم نكهة التقدم والتحدي الذي سيسم رئيس المقاولة مع عالم الشغل ، هذا المتبني لسلوك فاعل إزاء المخاطر ، القاعدة لأية سياسة حقيقية لمرونة الشغل . يجمل إذن التخلي عن النموذج المنفعل للدولة – الحامية الذي يخلق مجتمعا من الأفراد المُسْعَفين ؛ يجب أن يكون المواطنون فاعلين اجتماعيين من أجل بناء ” دولة اجتماعية مستثمرة ” يحل في حضنها المجتمع – الحامي محل الدولة – الحامية ، معيدا بذلك لكل فرد دوره كفاعل .

و لا يقول بودو شيئا آخر مغايرا لما قاله جيدنس ؛ فهذا المؤلف يعتقد أن الإطار الاجتماعي ـ الاقتصادي الوحيد الممكن هو الاقتصاد الاجتماعي للسوق ، والشخصية السياسية الوحيدة التي يحترمها ( باستثناء السيد جيرهارد شرودر ) هي شخصية الديمقراطي المسيحي لودفيغ إيرهارد (7) .

إن النموذج الذي يقترحه علينا كل من السيدين أنتوني بلير وجيرهارد شرودر من خلال استلهام نظريات مستشاريهما ليست في نهاية المطاف لا جديدة و لا اشتراكية ـ ديمقراطية . اللهم إلا إذا قبلنا اشتراكية ـ ديمقراطية بأسلوب الليبراليين ؛ أي اشتراكية ـ ديمقراطية مخوصصة .

ــــــــــــــــــ

(1 لوموند ، 21-20 يونيه 1999 .
(2 مدينة ألمانية حيث أعلن الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) خلال مؤتمر عن تراجعه عن الأطروحات الماركسية كأساس لعقيدته السياسية .
(3 إقرأ مثلا : الان تورين ” ما بعد الاشتراكية ” جراسّي ، باريس ، 1980 ؛ رالف داهرندورف ” ما بعد الاشتراكية ـ الديمقراطية ” في لوديبا ، رقم 7 ، جاليمار ، ديسمبر 1980 ؛ فرانسوا فوري ، جاك جوليار وبيير روزانفالون ” جمهورية الوسط ، نهاية الاستثناء الفرنسي ” ، كالمان ـ ليفي ، باريس ، 1988 .
(4 إقرأ إينياسيو راموني ، ” الاشتراكية ـ التقاليدية ” ، لوموند ديبلوماتيك ، أبريل 1999 .
(5 لندن ، 1998 ( ترجمة فرنسية : الطريق الثالث ، سيظهر في إطار منشورات سوي في فبراير 2000 ) .
(6 إيكون فيرلاغ ، ميونيخ ، 1998 .
(7 لودفيغ إيرهارد (1977-1897) ، وزير الاقتصاد السابق الذي يعتبر صانع ” المعجزة الألمانية ” ؛ خلف كونراد أديناور في المستشارية  (( 1966 – 1963 )  .