Category Archives: التحليل النفسي

تشخيص المرض النفسي

فن تشخيص المرض

في الطب النفسي


إن اختيار علاج معين ، وكذا النظرة التي سيكونها المريض عن ذاته ، يتوقفان على تشخيص المرض ، وتلك مرحلة ملاحظة جوهرية وأساسية ، كما هي جد صعبة.

برونو فاليسار

بقلم : برونو فاليسار

ماذا يفعل الطبيب النفسي لإنجاز تشخيص لحالة مرضية ما ؟ .. للإجابة على هذا السؤال ، لا بد اساسا من التفاهم بخصوص المعنى الذي سنعطيه لكلمة ” تشخيص “، بيد أننا نجد بادئ ذي بدء أن هذا المعنى ليس موحدا بين كل المشتغلين بهذا الميدان؛ فتشخيص ما يمكن أن يتقابل مع نمط خاص من الخلل الحال باشتغالنا النفسي ، خلل موصوف انطلاقا من خطاطات نظرية . نتحدث أحيانا عن مقاربة فيزيائية أو سيكولوجية مرضية. وهكذا ، فإن الدراسات المنجزة على الحيوان أو الأعمال الناجمة عموما عن علوم الأعصاب تقترح نماذج نوروبيولوجية للأمراض العقلية، مع ما يكفي من المحاضر الإكلينيكية ذات العلاقة. ولقد أدرج التحليل النفسي مفهوم العصاب في حقل نظري قوي ، يحتل فيه موقع المركز مفهوم دينامية مسار الحياة ، وبعض الأطباء يدرجون ممارستهم التشخيصية في منظور مثل هذا ، لكنها ليست حال كل الممارسين.

يمكن أن يعتبر التشخيص أيضا وببساطة مجموعة من العلامات التي نصادفها مجتمعة في الغالب ( الحزن ـ عدم القدرة على الإحساس بالمتعة ـ الأرق وفقدان الشهية مثلا . . )، نتحدث حينها عن ” أعراض متلازمة ” تتخذ صفة المرض إذا كانت تحدد مسارا علاجيا وتمتلك قيمة تكهنات تشخيصية ، إنها المقاربة الأعراضية والسيميولوجية للتشخيص التحليلي ـ النفسي. وهذه المقاربة تتأسس على ملاحظات دقيقة تمت مراكمتها عبر القرون من قبل معالجين نافذي البصيرة بشكل خاص، وتصنيفات الحليل النفسي الأكثر شهرة حاليا [ DSM و CIM ] تنهض من هذه المقاربة.

معرفة الموضوع

يجب أن نضيف لهذا عنصران هامان مرتبطان بمفهوم التشخيص :

1)      لا يمكن تصور مرض عقلي ما دون وضعه في منظور ما يشكل المريض النفسي، وبخلاف الفكرة الأكثر فورية ومباشرة ، ليس المريض هو من لديه مرض ما ، والعكس بالعكس ، ومع جورج كانغيلم يعتبر اليوم أن المريض هو من يدق باب الطبيب ، أما المرض فهو بناء يساعد على التفكير وعلى التكفل بالمريض قصد علاجه.

2)      تقدم لنا الأمراض العقلية كما لو كانت كيانات واضحة ومتميزة ، في حين أن هنالك استمرارية فيما بين ما هو عادي وما هو مرضي ، لكن ما دامت الكلمات والعلاج يخضعان لمنطق صارم ، فقد أضحى التشخيص سمة لكل شيء أو لا شيء.

سنفهم إذن في هذه المرحلة أن الممارسة التشخيصية ليست متناغمة و لا قابلة للتفسير يوضوح في مجال الطب ، والطب النفسي على الأخص.

عمليا هناك نقطة جوهرية لا بد من تسجيلها ، لقد كانت المحاورة التشخيصية دائما محاورة إكلينيكية ؛ أي مقابلة شخص يطلب المساعدة من مختص يتمثل دوره في الاستجابة لهذا الطلب، وينتهي الطبيب النفسي من خلال  هذا التلاقي بين الطرفين إلى التعرف بشكل أفضل على محاوره ، وهو ما ليس ضروريا فقط للتكفل بالمريض ، وإنما يشكل أيضا جزءا لا محيد عنه من العلاج ذاته؛ فمعرفة أن شخصا آخر يتفهم نكبتنا هو بطبيعة الحال مصدر ارتياح عميم : لا يمكننا إذن اعتبار الحوار التشخيصي كما لو كان مستقلا عن العلاقة النفس ـ علاجية التي تقوم بفعل ذلك في ما بين الطبيب النفسي والمريض.

نموذجان من التواصل

إن هذا ” التعرف على الذات ” في المجال العملي دائما ، والذي ينحو نحوه الحوار التشخيصي ، يقوم عموما على تبادل نموذجين من التواصل؛ الأول يمكن وصفه بالتواصل الفينومينولوجي : حيث يعلق الطبيب حكمه ويمتنع عن إصدار أي حكم ، ويلتقط محاوره في ذاتيته  ، فيتشكل بذلك انطباع ومناخ بين الطرفين يمكن من الوصول والولوج إلى أكثر وجوه الحياة النفسية والاشتغال النفسي اختفاء .

المقاربة الثانية هي مقاربة سيميولوجية ، وتتمثل في البحث عن العناصر الإكلينيكية ( أفكار الموت ـ الأرق ـ الهلوسات . . . الخ ). إن تركيب هذين النوعين من المعلومات ، وإدراجهما (أو عدم إدراجهما) في كنف الحقل النظري ، ووضعهما في نفس المنظور مع التمثلات التي كونها الطبيب خلال مدة زمنية معينة ، كل ذلك يقود بشكل تدريجي نحو تبلور وبروز التشخيص بكل تلاوينه وحدوده.

*****************************

إقرأ أيضا :

التحليل النفسي

مدرسة التحليل النفسي

إن تقسيم الحياة النفسية إلى حياة نفسية واعية وحياة نفسية لا واعية ، كتب فرويد (1856 ـ 1936 ) ، يشكل المقدمة الكبرى والأساسية في التحليل النفسي ” (” محاولات في التحليل النفسي” ، 1927 ).

♦       المكانان الفرويديان الإثنان.

لقد قدم فرويد على التوالي وصفين ” مكانيين ” ( من اليونانية Topos ، المكان ) للجهاز النفسي:

♦ المكان الأول المعروض في الفقرة 411 من ” تأويل الأحلام ” (1900) يميز ما بين ثلاثة “أنظمة: اللاشعور ـ ما قبل الشعور ـ الشعور.

♦   المكان الثاني ( الذي ظهر انطلاقا من سنة 1920 ) يمكن من تدخل ثلاث “قوى” :

  • في الهو تتحرك اندفاعاتنا البدائية ؛ وكل السيرورات الحادثة به تظل لا شعورية ” (فرويد ” موسى والتوحيد ” ، 1939 ) ، يخضع الهو إذن لمبدأ اللذة.

إقرأ كتاب : موسى والتوحيد

  • القوى المتبقية هي ـ الأنا ( مركز ” دفاعي ” للشخصية ) والأنا الأعلى ( امتصاص المطالب والمحرمات الأبوية ) وهما تحويران يطالان الهو أمام مطالب الواقع.

ملحوظة : الأنا والأنا الأعلى هما في جزئهما الأعظم لا شعوريان أيضا.

الفلتات ، الأحلام والعصاب

يحب فرويد أن يقدم عن الحياة النفسية تمثلا ديناميا ( من اليونانية : Dunamis ، القوة ) ، ” إن الحياة النفسية حقل صراع وحلبة تتصارع بداخلها النوازع المتعارضة ” ( “مدخل للتحليل النفسي ” 1916 ـ 1917 ) . و ” إذا كانت بعض التمثلات غير قادرة على أن تصير شعورية ، فذلك بسبب قوى معينة تعترضها ” ( ” محاولات في التحليل النفسي ” ، 1920 ـ 1923 ) .

الفلتات أو الأفعال المخطئة لأهدافها يقول فرويد ” هي أفعال نفسية لها معنى ومصحوبة بنية ” ( ” مدخل للتحليل النفسي ” 1916 ـ 1917 ) ، ففلتات اللسان أو القلم والأفعال الطائشة والنسيان غير المبرر . . الخ ، كلها تخون وتفضح في الغالب وبالفعل أسرار الشخص الأكثر حميمية، إن مظهرها الغريب يأتي من كونها ” نتاج لتداخل قصدين مختلفين ” ( نفس المرجع السابق ) .

وهكذا ، ففي الفلتة التالية ( وهي مثلا فلتة لسان رئيس غرفة المستشارين النمساويين الذي افتتح الجلسة بقوله : ” رفعت الجلسة ” ) نجد أن النية المكبوتة استطاعت أن تفلت وطفو على السطح عن طريق اختلال الخطاب العادي. ولكونها تكوينا تراضيا فإن الفلتة أيضا تبعا لذلك تكوين استبدالي وتعويضي ( أي بديل ) للخطاب المحرم من قبل القواعد الاجتماعية ( والتي كان من الممكن أن يكون الخطاب تبعا لها كما يلي : ” أنا جد متعب ، وليست لدي أية رغبة في ترؤس الجلسة .. . ” .

  • الأحلام :

يبدو الحلم بفعل خاصية تفكك أطرافه “ لغزا سحريا ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) ، لكننا نجد في ما وراء ” نص ” الحلم

( ” الحلم الظاهر ” أفكارا مستترة ورغبات لاشعورية ؛ ذلك أن عمل الحلم (أو البناء الحلمي ) يقيم تراضيا في ما بين نزوعين متعارضين في الجهاز النفسي ( في ما بين رغبات لا شعورية وقوى نازعة نحو حظر هذه الرغبات). إن الحلم تبعا لذلك حسب فرويد هو تحقيق وسواسي لرغبة.

إن أمراض العُصابتبدو إما أنها بدون دوافع وإما أنها لا معنى لها ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) . إن العُصاب يترجم بطريقته الحضور المتسلط للرغبة المرضية ( وهكذا فإن آنا التي ترعى أباها المحتضر كانت موزعة لاشعوريا بين حبها لأبيها ورغبتها في الحرية ). إن العلامات العصابية ( الهيستيريا ، الفوبيا ، الأفعال القهرية . . . الخ ) تشكل إذن بدورها إبدالات مرضية وجد مشوهة بالتأكيد ـ تتحاشى التعبير عن رغبة مكبوتة.

إن العلامات العصابية […] هي […] علامات على المكبوت ، تكوينات تسمح للمكبوت بالنجاح أخيرا في اقتحام الشعور الذي كان محرما عليه ( ” ميتا ـ سيكولوجيا ” ، 1915 ). إننا نسقط صرعى الأمراض حتى نستطيع الحصول بواسطتها على بديل عن الملذات التي تحرمنا منها الحياة ، وهي كلها ” علامات مرضية ” مشكلة ” لجزء من النشاط الجنسي لدى الشخص [ المريض ] أو لمجموع حياته الجنسية ” ( ” خمس دروس في التحليل النفسي ” 1910 ) . وهكذا فإن التأثير الأول لمرض آنا تمثل في جعلها غير قادرة على علاج أبيها لمدة طويلة . . .

ثلاثة مبادئ جوهرية للتحليل النفسي

  • كل الطاقة النفسية مشتقة من الليبيدو

إن الطاقة الجنسية حسب التحليل النفسي مشتقة بكاملها من الغريزة الجنسية ، والأنا والأنا الأعلى ليسا إلا تحويرات للهو أمام الواقع . ليس هناك إذن إلا الطاقة التي هي جنسية من حيث أصلها والتي تحملنا عن طريق التصعيد والتسامي على السعي نحو أهداف ” راقية اجتماعيا ” ( الشغل ـ الفن . . . الخ ) بدل السعي نحو مجرد المتعة الحيوانية .

  • هناك جنسية طفولية

إن الحياة الجنسية لدى الفرد تتجاوز بكثير حسب فرويد إطار نشاطه الجنسي : فالحياة الجنسية تبدأ مع الطفولة المبكرة وتغلف أشكال الحياة العاطفية الأشد تنوعا .

وهكذا ، فإن ” الحركة الإيقاعية والمتكررة للشفتين ” التي يمارسها الرضيع ، وعملية الامتصاص لدى الأطفال ، تعرف باعتبارها ” نشاطا جنسيا ” ( ” ثلاث محاولات في نظرية الجنس ” 1905 ) . إننا سنكون مخطئين بعبارة أخرى إذا ما اعتقدنا ( أو أردنا أن نعتقد ) أن ” الاندفاع الجنسي […] لا يستيقظ إلا في مرحلة البلوغ ” ( نفس المرجع ).

وهذه الجنسية الطفولية تمر تباعا بثلاثة مراحل :

  1. المرحلة الفمية ( السنة الأولى )
  2. المرحلة السادية ـ الشرجية ( من السنة 1 إلى السنة 3 )
  3. المرحلة القضيبية ( من السنة 3 إلى السنة 5 ).

وبعد مرحلة كمون للجنسية ( من سن 6 إلى 11 تقريبا ) يكتمل التنظيم النفسي عند لحظة البلوغ خلال مرحلة رابعة هي المرحلة الجنسية ( أو مرحلة المراهقة ).

·       التمييز بين الحالة السوية والحالة المرضية مسألة جد نسبية

لقد اعترفنا بأنه يستحيل علينا عمليا أن نضع خطا فاصلا بين الحالات السوية والحالات غير السوية ” ، كما كتب فرويد في “موسوعة التحليل النفسي ” ، 1938 ).

ليس للأمراض العصابية أي محتوى نفسي خاص لا يمكن أن نصادفه لدى الأشخاص الأسوياء ، ومن ثم فإن التحليل النفسي يدعونا أيضا لمراجعة مواقفنا المشتركة اتجاه المرضى العقليين.