Category Archives: علم اجتماع

ذكرى بيير بورديو

في ذكرى وفاة بيير بورديو ( 1أغسطس 1930 – 23 يناير 2002)

لقد مات الباحث والمثقف الملتزم في مواجهة الليبرالية الجديدة مساء يوم الأربعاء بمستشفى سانت أنطوان بباريس بعد إصابته بمرض عضال .

بيير بورديو ، عالم الاجتماع المناضل

على كل الجبهات

بيير بورديو

لقد ألقت القلاقل الناجمة عن مداخلات بيير بورديو العمومية خلال السنوات الأخيرة بعض الغيوم على صورة هذا الرجل المعروف بكونه أحد أكابر مفكري المجتمع المعاصر. وقد ذكر أحد تلامذته ، وهو لويس بينتو، منذ سنتين خلتا في كتاب له خصص لـ “بيير بورديو ، نظرية العالم الاجتماعي ” ، كيف أن أعمال هذا السوسيولوجي شكلت ” ثورة رمزية ” مماثلة للثورات التي أمكن الوقوف عليها في مباحث ومجالات أخرى كالموسيقى والتشكيل ، الفلسفة والفيزياء.

ومساهمة بيير بورديو الجديدة في مجال السوسيولوجيا ، كما أوضح ذلك بينتو ، هي قبل كل شيء ” طريقة جديدة في النظر إلى العالم الاجتماعي”، وذلك من من خلال إعطاء ” البنيات الرمزية الوظيفة الأساس “. إن التربية والآداب والفن التي شكلت أولى موضوعات بحثه تنتمي إلى هذا العالم ، أي العالم الرمزي ، غير أن وسائل الإعلام والسياسة، اللذين جعل منهما بورديو في أواخر حياته الحقل المفضل لاهتماماته وتنقيباته ، ينهضان أيضا من هذه المقاربة. إن ما يسم ” حقول الإنتاج الرمزي ” حسب لويس بينتو هو أن مسألة ” ميزان القوى في ما بين الفاعلين ” لا يبرز إلا ” في الصورة المحورة والملطفة لعلاقات المعنى ” ، وبعبارة أخرى ، فإن ” العنف الرمزي “، وهو التيمة المركزية في أعمال بيير بورديو ، لا يتم تحليله كما لو كان مجرد أداة في خدمة الطبقة المهيمنة ، فهو يتحقق أيضا وتتم ممارسته عبر لعب الفاعلين الاجتماعيين، وإرادة التغلب وتجاوز هذه النقائض المغلوطة في التقليد السوسيولوجي : فيما بين البنية والتاريخ والحرية والحتمية ، فيما بين الفرد والمجتمع والموضوعية والذاتية ، هو ما ضمن بدون شك لسوسيولوجيا بيير بورديو أصالتها.

من ” الورثة ” ، وهو أحد كتبه الأولى ، منشور سنة 1964 بمعية جان كلود باسرون ، إلى ” البنيات الاجتماعية للاقتصاد ” سنة 2000 ، مرورا بكتابه ” التمايز ” سنة 1979 ، والكتاب الجماعي ” بؤس العالم ” سنة 1993 ، حتى لا نذكر إلا بعضا من كتبه الـ 25 المنشورة، فتح بورديو مسارا بكثير من الغنى ، وبمنحه الميدالية الذهبية سنة 1993 اعترف المركز الوطني للبحث العلمي  CNRS  بفضله الذي لا ينكر. وقد أشار بورديو إلى أن المركز ” أعاد إحياء السوسيولوجيا الفرنسية المزاوجة دائما ما بين الصرامة التجريبية والنظرية المؤسسة على ثقافة واسعة في ميدان الفلسفة والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا “.

غير أن بورديو لم يكن فقط باحثا استثنائيا حاصلا على اعتراف أمثاله عبر العالم ، بل كان أيضا مفكرا مهموما بالإدلاء بدلوه في المناظرة والنقاش العموميين، في إطار التقليد الفرنسي الذي دشنه الفرنسيون ابتداء من زولا إلى سارتر، وقد عمل الكثير في التسعينيات من أجل وضع الحركة الاجتماعية ودفعها إلى الواجهة ، وتجسيد ما أسماه هو ” يسار اليسار “؛ أي يسارا رافضا للتوافقات التي أقدم عليها في نظره الحزب الاشتراكي.

” لقد أدت عشر سنوات من الحكم الاشتراكي في النهاية ، كما صرح بذلك سنة 1992 ، إلى تدمير الإيمان بالدولة ، وكذا إلى تدمير الدولة – الحامية التي كانت قائمة في السبعينيات، وذلك باسم المذهب الليبرالي ” ، وقد دعا، في مواجهة صمت رجال السياسة، إلى تعبئة المثقفين “. إن ما أدافع عنه ، كما أوضح ذلك في نفس الاستجواب ، هو إمكانية ، بل ضرورة وجود المثقف النقدي ” ثم مضيفا ” فليست هناك ديمقراطية فعلية بدون وجود سلطة مضادة نقدية وحقيقية، والمثقف في المقام الأول هو أحد أعمدة هذه السلطة “.


إن هذه المعركة ضد الليبرالية في جميع صورها هي ما استجمع له بيير بورديو قواه الأخيرة، وقد عمل أكثر فأكثر على إيجاد توليف بين مظهر العالم ومظهر المناضل من خلال وضع معارفه العلمية في خدمة التزامه السياسي: ” لقد وجدت ذاتي بفعل منطق عملي ، كما أشار إلى ذلك في أحد كتبه الأخيرة (مطفأة الحريق 2 من أجل حركة اجتماعية أوربية )، مدفوعا إلى تجاوز الحدود التي وضعتها لنفسي انطلاقا من فكرة الموضوعية التي بدت كصورة من صور الرقابة والمنع” ، وهو يقول عن نفسه بأنه مهموم ” بإخراج المعارف من المدينة العالمة ” بغية توفير قواعد نظرية متينة لأولئك الذين يرومون فهم وتغيير العالم.

إن هذا الصراع ، وتلك المعركة ، يتحققان أيضا عبر إعادة النظر في وسائل الإعلام التي انتقدها بورديو بكونها تخضع لمنطق تجاري متنام ومتعاظم ، وأخذ عليها كونها تعطي الكلمة طيلة الوقت ” لصحافيين ثرثارين وغير أكفاء ” . في إحدى مداخلاته الأخيرة سنة 1993 وجه الخطاب لمسؤولي كبريات وسائل الإعلام والاتصال ، ففي مقاله : ” أسئلة موجهة لأسياد العالم الحقيقيين “، أكد بورديو خاصة على ما يلي : ” إن هذه السلطة الرمزية التي كانت متميزة في أغلبية المجتمعات عن السلطتين السياسية والاقتصادية ، هي اليوم مجتمعة ومتمركزة في أيدي نفس الأشخاص ، هؤلاء الذين يحوزون السيطرة على كبريات وسائل الاتصال ، أي مجموع أدوات إنتاج وبث الخيرات الثقافية والفكرية “.

لقد وقف مناهضا لهذه العولمة ، رافضا الاختيار في ما بين العولمة المتصورة باعتبارها ” خضوعا لقوانين التجارة ” و ” سيادة الشأن التجاري ” الذي كان دوما ” النقيض المباشر لما يفهم عادة تقريبا وبشكل كوني من الثقافة “، والدفاع عن الثقافات الوطنية أو ” هذه أو تلك من صيغ النزعة الوطنية أو المحلية الثقافية “. و بعيدا عن هؤلاء النازعين نحو السيادة دافع على العكس من ذلك، وبلا هوادة، على أكثر ما يمكن من الكونية. و من خلال إعلانه بأنه إلى جانب ” حركة اجتماعية أوربية ” كمرحلة أولى من مراحل نزعة أممية واضحة، دافع عن هذا المثال بما في ذلك من وفاء لدوره كمثقف نقدي.

وقد ظل بورديو في نفس الآن ملتصقا بتصوره عن السوسيولوجيا كما سبق له أن عرضه سنة 1982 في درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانس : ” ليست السوسيولوجيا حقلا من حقول الميكانيكا ، فالحقول الاجتماعية هي حقول قوى ، وهي أيضا حقول صراع من أجل تغيير حقول هذه القوى أو الحفاظ عليها “، وقد أضاف ” إن العلاقة العملية بالفكر التي يحافظ عليها الفاعلون في اللعبة تشكل جزءا من اللعبة ، ويمكن أن تكون في مبدأ تغيرها ” . وفي مواجهة كل أولئك الذين اتهموه بكونه يعطي وزنا أكبر للبنيات وبالبقاء داخل حتمية مصيبة بالشلل، دافع عن اعتقاده وإيمانه بحرية الإنسان، وحياته وأعماله هي هنا لتشهد على هذه القناعة الراسخة.

توماس فيرنشي

نزع أسلحة الأسواق

إغناسيو رامونيبقلم : إينياسيو راموني

عن: لوموند ديبلوماتيك

يهدد الإعصار الذي ضرب بورصات آسيا بقية العالم ، وعولمة الرأسمال المالي هي في طريقها لجعل الشعوب في حالة لاأمن معممة . إنها تلتف حول أعناق الأمم وتنتقص من دولها باعتبارها مجالات دائمة الإقناع لممارسة الديمقراطية وضامنا للخيرات المشتركة .
إن العولمة المالية خلقت فضلا عن ذلك دولتها الخاصة ؛ دولة فوق ـ وطنية حائزة لأجهزتها وشبكات تأثيرها وكذا وسائل فعلها الخاصة . يتعلق الأمر بتوابع صندوق النقد الدولي ( FMI ) ، البنك العالمي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ( OCDE ) والمنظمة العالمية للتجارة ( OMC ) . إن هذه المؤسسات الأربع تتحدث بصوت واحد ــ ملتقط بواسطة المجموع الكلي لكبريات وسائل الإعلام ــ وذلك بغاية مدح ” فضائل السوق ” وإطرائها .

هذه الدولة العالمية هي سلطة بدون مجتمع ، ودورها منجز من طرف الأسواق المالية والمقاولات العملاقة التي تمثل القائد الآمر ، مع ، وبالنتيجة ، أن هذه المجتمعات القائمة فعلا هي مجتمعات بدون سلطة (1) ، وكل هذا لم يتوقف عن التعمق والتفاقم .
إن منظمة التجارة العالمية ، باعتبارها وريثة الغات ، تحولت بذلك منذ سنة 1995 إى مؤسسة حائزة لسلط فوق ـ وطنية ومتموقعة خارج دائرة أي ضبط أو مراقبة من طرف الديمقراطية البرلمانية ؛ وهي بمجرد ما أن تتحكم تستطيع أن تصرح واضعة التشريعات الوطنية في مجال قانون الشغل ، البيئة أو الصحة العمومية ” المناقضة لحرية التجارة ” في مجال المرفوضات وتطالب بإلغائها (2) . ومن جهة أخرى فإنه منذ ماي 1995 ، وفي حضن OCDE ، وبمبعدة عن الرأي العام في كل المجتمعات ، يتم التفاوض حول ما اعتبر ذا أهمية قصوى ، وهو الاتفاق المتعدد الأطراف بخصوص الاستثمارات ( AMI ) ، الذي ينتظر توقيعه سنة 1998 ، والمستهدف لتوفير سلطة مطلقة للاستثمارات في مواجهة الحكومات .
يتوجب أن يتحول نزع سلاح السلطة المالية إلى ورش قانوني مدني كبير إذا كان يُراد اجتناب وتحاشي أن يتحول القرن المقبل إلى غابة يصنع فيها النهابون القانـون .
يوميا تمارس 1500 مليارا من الدولارات عديدا من عمليات الذهاب والإياب مضاربة حول تنويعات أثمان العملات . وهذا اللااستقرار للمبادلات هو أحد أسباب ارتفاع قيمة الفوائد الحقيقية التي تفرمل استهلاك الأسر واستثمارات المقاولات ، إنه يحفر معمقا ضروب العجز العمومية . وفضلا عن ذلك يستحث صناديق المعاش التي تتحكم في مئات الملايير من الدولارات على مطالبة المقاولات بحصص من الأرباح أكثر فأكثر ارتفاعا . إن أوائل ضحايا هذا ” التضييق والمحاصرة ” هم المأجورون الذين سيؤدي تسريحهم بأعداد غفيرة إلى أن تطير التسعيرات البورصوية من مستخدميها السابقين . هل تستطيع المجتمعات أن تتحمل لمدة طويلة ما لا يحتمـل ؟ .. إن هنالك استعجالا يتمثل في إلقاء حبيبات الرمل في حركات الرساميل المخربة هاته ، وذلك بصور ثلاث :
إلغاء ” الجنان الضريبية ” ؛ الرفع من قيمة الضرائب على عوائد الرأسمال ؛ فرض ضرائب على المعاملات المالية .
إن الجنان الضريبية هي بشكل كبير مناطق يغمرها السر البنكي الذي لا يصلح إلا لتقنيع الاختلاسات ومناشط مافيوزية أخرى . وهكذا يمكن إختلاس ملايير الدولارات من أي ضريبة لمصلحة الأقوياء والمؤسسات المالية . ذلك لأن لكل كبريات أبناك البسيطة فروعا في الجنان الضريبية ، وتحقق بفضلها الأرباح الكبرى . لماذا لايتم سن قانون مقاطعة مالية على سبيل المثال لجبل طارق ، جزر كايمانس أو ليشنشتاين عبر المنع الفعلي للأبناك التي تتعامل مع السلطات العمومية بفتح فروع لها بهــا ؟ ..
إن إقرار ضريبة على العائدات المالية هو مطلب ديمقراطي يدخل في باب أضعف الإيمان . يجب إخضاع هذه العائدات للضريبة ، وبالضبط بنفس النسبة المئوية المفروضة على عائدات الشغل ؛ وهذا ما ليس حاصلا في أي مكان ، وبالاتحاد الأوربي على وجه الخصوص .
إن الحرية المطلقة لانتقال الرساميل تهدد استقرار الديمقراطية ؛ وهذا هو ما يجعل وضع آليات رادعة مسألة في غاية الأهمية . أحد هذه الآليات يتمثل في ضريبة توبين ؛ من إسم صاحب جائزة نوبل الأمريكية للاقتصاد ، والتي اقترحها منذ سنة 1972 . يتعلق الأمر بفرض ضريبة ، وبمقادير طفيفة ، على كل أنواع المعاملات بأسواق المبادلات ؛ وذلك من أجل العمل على استقرارها ، وبنفس المناسبة ، لاستخلاص عائدات للمجتمع الأممي . بنسبة % 0,1 ستستخلص ضريبة توبين سنويا حوالي 166 مليارا من الدولارات ، أي مرتان أكثر من المبلغ السنوي الضروري للقضاء نهائيا على الفقر المدقع من اللحظة حتى بداية القرن المقبل (3) .
لقد أوضح عديد من الخبراء أنه لن تنشأ عن وضع هذه الضريبة موضع التنفيذ أية صعوبات تقنية (4) . إن تطبيقها سيهدم المبدأ الليبرالي لكل أولئك الذين لم يتوقفوا عن الإشارة إلى غياب حل بديل للنسق الحالي .
ثم لماذا لا يتم على مستوى البسيطة والتنظيمات غير الحكومية القيام بحركة عالمية لصالح ضريبة توبين لمساعدة المواطنين ( ATTAC ) ؟ .. بالعلاقة مع النقابات والجمعيات ذات الأهداف الثقافية الاجتماعية أو الإيكولوجية . إنها ستتمكن من التحرك بوصفها جماعة هائلة للضغط المدني لدى الحكومات من أجل دفعها للمطالبة أخيرا بوضع هذه الضريبة العالمية التضامنية موضع التنفيذ العملي .

الاقتصاد الجديد

بقلم : إغناسيو راموني

لوموند ديبلوماتيك ، عدد أبريل 2000.

إننا نعرف قولة كارل ماركس : أعطني الطاحونة ، وسأعطيك العصر الوسيط وبإمكاننا أن نضيف لتلك القولة العبارة التالية : أعطني الآلة البخارية ، وساعطيك العصر الصناعي ، أو إذا ما طبقنا هذه العبارة على لحظتنا الراهنة ، فإننا سنقول : أعطني الحاسوب ، وسأعطيك العولمة .


وحتى إذا كانت هذه التحديدات مبالغا فيها ، فهي تلخص بشكل مضبوط الفكرة المركزية : ففي لحظات تلاق في التاريخ فإن ابتكارا أو اختراعا هائلا ـ غير ناجم أبدا عن الصدفة ـ يربك نظام الأشياء ويغير منحى ومسار مجتمع ما ويطلق شرارة حركة جديدة ذات مدة طويلة ، ولقد دخلنا منذ عقد من الزمن ، وبشكل خفي عن الإدراك ، في حركة من هذا النوع.

ففي نهاية القرن 18 كانت الآلة البخارية ، من خلال إحداثها للثورة الصناعية ، قد غيرت وجه العالم : ظهور الرأسمالية وبروز طبقة العمال ، ميلاد الاشتراكية ، توسع الحركة الاستعمارية . . . الخ . بيد أن هذه الآلة في نهاية المطاف لم تكن إلا بديلا عن العضلات.

وباعتبار أن الحاسوب يطمح لتعويض المخ أو الذهن ، فإنه في طريقه ، وتحت أبصارنا ، لإحداث تحولات أكبر وأعمق وبشكل غير مسبوق .إن كل واحد منا يعاين بالفعل أن كل شيء تغير من حوله فعلا : السياق الاقتصادي ، المعطيات الاجتماعية ، المعايير الثقافية والسلوكات الفردية.

إن تكنولوجيا الإعلام والاتصال والثورة الرقمية أيضا تدخلنا ، على الرغم منا ، في عصر جديد تتمثل سمته الأساس في النقل الفوري واللحظي للمعطيات اللامادية ، وفي انتشار الروابط والشبكات الإلكترونية. إن الأنترنيت يشكل القلب من هذه التطورات وملتقى الطرق وكذا التركيب للتحول الكبير الذي يجري من حولنا الآن . إن الطرق السيارة للاتصال هي في الحقبة الراهنة ما كانته الخطوط الحديدية في العصر الصناعي : عوامل قوية للدفع وتكثيف المبادلات.

إن العديد من البورصويين المضاربين ، يتذكرون بفعل مقارنات مثل هاته في الذهن : أن المزايا الاقتصادية لنظام النقل تتعاظم من خلال قفزات مفاجئة عندما يتم إنجاز روابط معينة ، وأنه في سنوات 1840 شكل بناء الخطوط الحديدية لوحده القلب النابض والأكثر أهمية للنمو الصناعي بأوربا الغربية (1). إن الرأسماليين الجدد يراهنون إذن على النمو الفائق والدليلي ، في مرحلة الإقلاع هاته ، لكل النشاطات المرتبطة بالطرق السيارة الافتراضية ، لتكنولوجيات الشبكات والأنترنيت ، وهذا هو ما يدعى الاقتصاد الجديد . ويظل عديد من المستثمرين مقتنعين بأنه في لحظة التحولات الأسرع هاته ستكون المقاولات في كل مكان ، وعلى الأخص مكرهة بغرض التكيف والتلاؤم ، على الإنفاق أكثر على التجهيزات الإعلامية وأدوات الاتصال والشبكات . . . الخ . إن آفاق النمو تبدو هائلة ؛ ففي السنوات الثلاث الأخيرة بفرنسا ، اشترى أكثر من 10 ملايين شخصا تليفونات نقالة ، وتضاعف معدل التزود بالحواسيب .

ويتم اعتبار أن على عدد مستعملي الأنترنيت المقدر بـ 142 مليون شخصا سنة 1998 أن يقارب انطلاقا من الآن إلى حدود سنة 2003 رقم 500 مليون شخصا . . . وستشهد المعركة المستقبلية الكبرى مواجهة في ما بين المقاولات الأمريكية والأوربية واليابانية من أجل السيطرة على الشبكات وعلى سوق الصور والمعطيات والصوت وألعاب التزجية والترويح عن النفس ، وباختصار على المضامين ، وأيضا ، وربما بالخصوص ، من أجل فرض الذات في ميدان التجارة الإلكترونية. لقد تحول الأنترنيت إلى معرض تجاري شاسع ، إن التجارة الإلكترونية التي حققت في مرحلتها الجنينية بالكاد سنة 1998 رقم 8 ملايير دولارا، ينتظر أن تقارب 40 مليار دولارا سنة 2000 وتتجاوز 80 مليارا من الدولارات سنة 2002 .

إن فيالق المستثمرين ( قدماء وجددا ) الذين ركبتهم حمى بحبوحة العيش الحارقة ، والحالمين بالكنز السهل والمشجعين في غالبيتهم من قبل وسائل الإعلام ، يتهافتون تقريبا على البورصات كما لم يفعل ذلك الباحثون عن الذهب في الإلدورادو . ومن ثمة فإن أسعار بعض القيم المرتبطة بمجرة الأنترنيت انفجرت ؛ فقد رأت عشرة من الشركات في السنة الماضية قيم أسهمها وهي تتضاعف 100 مرة ، أما شركات أخرى مثل أمريكا على الخط American on line  فحققت أفضل من ذلك : فقد تضاعفت قيمها منذ سنة 1992 ب 800 مرة.

إن مدخرا استثمر فقط يوم دخوله البورصة 1000 دولارا في أسهم كل واحدة من كبريات شركات الأنترنيت ( Yahoo, Aol, Amazon, Athom, Ebay ) كان بإمكانه أن يربح منذ 9 أبريل 1991 مليونا من الدولارات .وقد أعلن مؤشر ناسداك ( البورصة التي يتم فيها تبادل غالبية قيم التكنولوجيات العالية الدقة بنيويورك ) بالنسبة لسنة 1999 عن ربح مقدر ب 85,6 % ، وحتى إذا كان هذا المؤشر قد عرف في مارس 2000 تراجعا دالا ، فإن ارتفاعه منذ بداية السنة ظل أعلى من نسبة 20 % .

إلا أن الاغتناء السريع وبدون عمل يتأسس على سراب ؛ ففي الولايات المتحدة ، ورغم الاغتناء الشمولي ، فإن الفوارق تستمر في التعاظم بشكل مفارق ، وقد بلغت هذه الفوارق مستويات لم تبلغها منذ الأزمة الكبرى . إن الازدهار الناجم عن الاقتصاد الجديد يبدو بالغ الهشاشة مما يذكرنا بالازدهار الاقتصادي الأعظم في العشرينيات ، عندما كان التضخم على غرار ما يحدث اليوم ضعيفا والإنتاجية مرتفعة ، إلى حد أن البعض جرؤ على الحديث عن خطر الإفلاس وتذكيرنا بأطياف أزمة 1929 . . (2).

إن 25 % فقط من مقاولات اقتصاد الأنترنيت ينتظر أن يبقى على قيد الحياة على المدى المتوسط ، وهناك سلطات مالية عليا لا تتردد في تنبيه المدخرين قائلة : عليكم بالحذر إزاء سندات وأسهم مقاولات الأنترنيت ، كما أكد ذلك على سبيل المثال السيد أرنو ويلينك ، رئيس البنك المركزي للبلدان المنخفضة ، والذي يشبه المتعاملين بجياد حمقاء مسعورة يركض كل منها وراء الآخر بحثا عن منجم ذهبي (3).

لقد قيل عن الثورات السياسية بأنها تلتهم أبناءها ، والثورات الاقتصادية تفعل نفس الشيء.

+++++++++++++++++++

هوامش :

(1)   دافيد س . لاند “أوربا التقنية” جاليمار ، باريس ، 1975 ، ص: 214.

(2)   بيزنس ويك ، 14 فبراير 2000.

(3)   لوموند ، 12 مارس 2000.

كواليس الهيمنة

لقد فكك بيير بورديو ميكانيزمات الهيمنة الاجتماعية من خلال ملاحظة ميادين مختلفة ومتنوعة ( فلاحون جزائريون ـ جامعيون ـ باطرونات ـ عمال ـ صحافيون . . . ) وكذا من خلال بناء جهاز مفاهيمي غني . .

بقلم: فيليب كابان

Le Goût Des Autres de Agnès Jaoui - DVD Zone 2

في فيلم ” أذواق الآخرين ” ، وهو من إخراج أنبيس جاوي ، يلعب جان بيير باكري دور كاستيلا ، أحد باطرونات مقاولة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة PME الذي وقع في غرام كلارا ، وهي ممثلة بالمسرح ، وبذلك وجد نفسه غارقا في دائرة أصدقائها : رسامين ومهندسين وممثلين . . . وباختصار ، ” عجل ” إقليمي غارق في الوسط الغني الأنيق. الأحداث الأكثر تميزا في الفيلم وقعت في أحد المطاعم : فقد شكل كاستيلا ( بشارب وبذلة وربطة عنق ونكث بذيئة ) بدون أن يشعر أضحوكة أصدقاء كلارا ( ببذلات سوداء مهملة بحذق وفكاهة وظرف من الدرجة الخامسة ). إن ما يؤسس هنا كراهية البورجوازيين الصغار المثقفين للباطرون الصغير الوافد هو الإحساس بأنهم مختلفون ومتميزون عنه تميزا هو من العمق من حيث استبطانه إلى حد أنه يمكن أن يقرأ من خلال النظرات والأوضاع الجسمانية والحركات والصيغ الكلامية.

فيلم أذواق الآخرين

Ressources humaines (Affiche)في فيلم آخر هو ” موارد بشرية ” للوران كانتي ، نجد فرانك (جليل ليسبيير) طالبا شابا بمدرسة الدراسات التجارية العليا HEC يختار إجراء دورة تدريبية بإدارة المقاولة التي يعمل بها والده منذ ثلاثين سنة . . . وبرفض المشاركة في اللعبة، فإنه سيصطدم بخنوع واستكانة أبيه؛ فقد تقبل هذا الأخير مصيره من خلال استيطان نظام الأشياء.

إن هاتين الحكايتين تقصان علينا التباين القائم فيما بين أنماط العيش والحياة ، وهي تصف علاقات الهيمنة والحظوة : وبذلك فهي تقدم ضربا من التركيز لفكر بيير بورديو .

وبالفعل ، فلم يشيد بيير بورديو بناء شاسعا وطموحا إلا من خلال ملاحظة الممارسات الثقافية وأشكال منطق التمايزات الاجتماعية ، هذا البناء الذي يمكن تلخيصه بالصورة التالية : إن المجتمع فضاء للاختلاف تعتبر علاقات الهيمنة بداخله علاقات خفية ومستترة ، وذلك لأنها مستدمجة بعمق من قبل الأفراد . وسيمضي مشروع بيير بورديو بكامله إلى التشكل من خلال ملاحظة مجالات وسكان من مختلف الأشكال والأنواع (من الفلاحين الجزائريين إلى الجامعيين مرورا بالباطرونات والعمال والصحافيين . . . )، أي إلى إيضاح ميكانيزمات هذه الهيمنة والبرهنة عليها.

المال والثقافة

يطرح بورديو المصادرة القائلة بأن هناك في كل مجتمع مهيمنون ومهيمن عليهم ، وبأن المبدأ الأساس للتنظيم الاجتماعي يقيم في هذا الاختلاف ، غير أن هذه الهيمنة تتوقف على وضعية الموارد وإستراتيجية الفاعلين ( وهكذا فإن كاستيلا المهيمن في عالمه ، أي عالم المقاولة ، يتحول إلى مهيمن عليه عندما يغشى الوسط الفني ) . وتتوجب لاستيعاب وفهم هذه الظواهر معرفة ضروب منطق تأثيراتها المتعلقة بالموقع وبالموارد، وهذا هو سبب اقتراح بورديو منظورا طوبولوجيا للمجتمع ؛ فهذا الأخير ليس هرما أو سلما ، بل يبدو كـ ” فضاء للاختلافات ” والفوارق. وينتظم هذا الفضاء الاجتماعي حول بعدين اثنين : الحجم الإجمالي للموارد المحصل عليها وتوزيعها إلى رأسمال اقتصادي ( ثروة ، أجور ، مداخيل ) ، ورأسمال ثقافي ( معارف ، ديبلومات ، أساليب جيدة ) . إن هذا الفارق فيما بين المال والثقافة ، فيما بين ” التجاريين ” و ” الخلص ” هو جد تمييزي حسب بورديو، وأحد محددات هوية الفنانين يقيم في اختيار ” الفن للفن ” واللامبالاة حيال الجانب المادي : فالأعمال المنجزة تحت الطلب من قبل رسام تنعث بأنها أعمال ” غذائية ” ، وفي أصناف اجتماعية أخرى ، وعلى العكس من ذلك ، فإن المال يعتبر علامة على التميز : فكاستيلا في نهاية العشاء ينتهي بأداء فاتورته. إن الفاعل الاجتماعي لا يروم إذن حسب بورديو إلا المصلحة: وهو ساع أيضا وراء الحظوة والاعتراف به من قبل الآخرين. ويأتي الاختلاف أيضا فيما بين باطرون مقاولة من المقاولات الصغيرة والفنانين من المواجهة بين خانتين أو عالمين مختلفين من خانات أو عوالم المجتمع التي يسميها بورديو بالحقول؛ إنها ضرب من الميكروكوزم ( العوالم الصغيرة ) متجانسة نسبيا ومستقلة ذاتيا وهامة من ناحية الوظيفة الاجتماعية : الحقل الفني ـ الحقل الصحفي ـ الحقل الجامعي . . . إلخ.

إن الحقول هي بشكل أساسي مجالات للمنافسة والصراع؛ فالحقل الصحفي على سبيل المثال هو مجال متسلط عليه قبل كبريات وسائل الإعلام وبعض الصحفيين الذين ” يصنعون الحدث ” ، والمهيمن عليهم من بينهم يتكونون من صحافيي القاعدة والمأجورين على السطر.غير أن كل حقل يمتلك قواعد لعبه الخاصة : ففي العالم الأدبي يحسن استخدام الرأسمال الثقافي والرأسمال الاجتماعي ( شبكات العلاقات ـ حفلات الكوكتيل والتملق ) بدل استخدام الرأسمال الاقتصادي. و كل فرد يلج حقولا مختلفة، إلا أنه لا يحتل فيها كلها نفس المرتبة؛ فالجامعيون هم في موقع المهيمن عليهم في حقل السلطة ( بالمقارنة مع الصناعيين )، إلا أنهم مهيمنون في الحقل الثقافي بالمقارنة مع الفنانين ( أنظر كتاب الإنسان الأكاديمي Homo Académicus ).

ويستخدم بورديو مفهوم اللعب لوصف اشتغال الحقول ، وهذا الوضع يمكنه من تجاوز التعارض التقليدي في ما بين نشاط الفرد والحتمية الاجتماعية ( الذي هو منسوب في الغالب لبورديو ) . ويقبل اللعب الاجتماعي أن ينظر إليه كلعبة ورق أو لعبة شطرنج : فلكل فرد موقع إيجابي قليلا أو كثيرا ، ولديه مؤهلات وأوراق رابحة ( رأسمال اقتصادي ، ثقافي أو اجتماعي ) ملائمة قليلا أو كثيرا . . .

من قطار الحياة إلى نمط الحياة

إذا كان البعض في حاجة كليا إلى الموارد ويجري عليهم اللعب ، فإن كثيرا من الفاعلين يستطيعون استخدام استراتيجيات من أجل تحسين أوضاعهم ؛ فكاستيلا على سبيل المثال سيبذل جهودا تجعله يهتم بالفن التشكيلي المجرد ، ذلك الفن الذي لا يفقه فيه شيئا ، وذلك من خلال تقديمه طلبا للحصول على رسم جداري مائي من رسام طليعي ، وذلك من أجل تزيين واجهة معمله ، وبذلك فقد حاول أن يحول الرأسمال الاقتصادي ( مورده الأساس ) إلى رأسمال اجتماعي وثقافي.ولقد أبان بورديو من خلال تعريف وتحديد الفضاء الاجتماعي بهذا الشكل كيف أن ” كل فئة من فئات الأوضاع تقابلها فئة من أشكال التطبع Habitus أو (الأذواق) “. وقد سبق لدوركهايم في معرض برهنته على سيطرة ما هو اجتماعي على السلوك الفردي أن تناول كموضوع الفعل الأكثر حميمية وهو المتمثل في الانتحار (1)، و بورديو يتبنى في كتابه ” التمايز ” مسعى مماثلا لمسعى دوركهايم.إنه من المقبول عادة أن ” الأذواق لا تناقش ” وأن التفضيلات مسألة شخصية : بيد أن بورديو يوضح أن أحكامنا ( سواء تعلقت بالموسيقى أو بالرياضة أو بالمطبخ . . ) هي انعكاس لموقعنا داخل الفضاء الاجتماعي، وما يقيم رابطا فيما بين البنيات الاجتماعية وأذواقنا الخاصة هو التطبع Habitus. إن التطبع هو ضرب من القالب الذي من خلاله نرى العالم ويتم توجيه سلوكنا ، وهو يظهر من خلال مجموع متماسك من الأذواق والممارسات ؛ فباطرون صغير ككاستيلا مثلا يملك كلبا وتغطي جدران شقته أوراق موردة ، يعشق مسرح الشارع والمسلسلات الأمريكية ، ومن المحتمل أنه يحب كرة القدم وصلصة لحم العجل. إلا أنه ليست لتطبع أصدقاء كلارا نفس السمات والخصائص : فهم بالأحرى يتبنون قطة ويعشقون المسح الطليعي وأفلام جان لوك غودار أو وودي ألن ، يأكلون مطبوخات صينية أو مكسيكية ويكرهون كرة القدم. وإذن فما هو مناسب من أجل ملاحظة الفضاء ليس هو قطار الحياة وإنما هو أسلوب العيش أو نمط الحياة. إن كل صنف من أصناف المستخدمين والتجار الصغار والجامعيين والعمال الاجتماعيين يقابل عالما ونظاما مرجعيا ، ويمكن أن تكون هناك بطبيعة الحال استثناءات لهذه القاعدة : أي العمال الذين يقرأون كتب مارغريت دوراس أو الجامعيين الذين يحبون جوني هاليداي: ليست هناك إذن حتمية ميكانيكية ، وإنما قوانين نزوعية يتعلق الأمر بالكشف عنها بتحيينها. غير أن تجارب الارتقاء الاجتماعي هي في الغالب مؤلمة ، لقد ألحق أنطوان بأحد الليسيات الفاخرة من طرف أبويه : ” لقد وجدت نفسي هناك داخل الليسي أغرب الغرباء، وهناك وقفت بالفعل على الفارق . . .لقد كان الليسي تقريبا كصندوق للباكالوريا بالنسبة لأبناء الأغنياء الذين كانوا يحيون بالفعل حالة شبيهة بحالة الهواية ” ، ولقد شعر بالمهانة والمذلة جراء ملاحظات رفاقه ” بخصوص ملابسه الرخيصة ” ( بؤس العالم ).

إظهار الفارق

إن محرك تنميط الحياة هذا هو التمايز؛ فهل هناك ما هو أفضل من الثقافة لإظهار أننا متميزين ؟.. لقد لاحظ بيير بورديو في أبحاثه الأولى الولوج المتفاوت للثقافة حسب اختلاف الطبقات الاجتماعية ( محبة الفن ) : إن أفراد الطبقة المثقفة ( المتعلمة ) يبدون عند زيارتهم للمتاحف ألفة واستئناسا عفويين بالفن ، يتأتيان لا من استعداد أو هبة فطرية، وإنما من سنن ولغات مكتسبة من خلال عملية التطبيع الاجتماعي ، والمهيمن عليهم لا يمتلكون هذا السنن ، وبذلك فإنهم سيذهبون كنتيجة لذلك لتطبيق خطاطات إدراكهم للوجود اليومي على الفن. وهذا هو السبب الذي يجعلهم يحبون الأفلام المصورة ، أو الأفلام التي تعتبر سيناريوهاتها مماثلة لها.السيد ل رئيس عمال بالسكك الحديدية يعشق الرسوم الجدارية بكنيسة سيكستين يقول عن سبب عشقه لها : ” لأنها تعرض شيئا ما ، لكنك عندما ترى أربع خربشات بقلم الرصاص وترى أن الناس يشترونها بأسعار مجنونة ، فأنا شخصيا عندما أجد هذه الخربشات الأربع فإنني سأرميها في القمامة ” ( مذكور في التمايز ) . أما الطبقات المثقفة فهي تعطي الأولوية والحظوة للتفوق والرفاهية ثم للقراءة في الدرجة الثانية.

وبشكل أعم فإن هناك تراتبية للممارسات الثقافية ؛ فالفنون النبيلة ( رسم ـ مسرح ـ موسيقى كلاسيكية ـ نحت ) هي إقطاعة الطبقات المسيطرة . أفراد الطبقات الوسطى المتعلمة ( صغار البورجوازيين الحاصلين على ديبلومات ) يتسمون بـ ” الإرادة الثقافية الحسنة ” ؛ إنهم يمارسون أنشطة ثقافية مكثفة ، لكن ونظرا لأنهم لا يتقنون سنن الميادين الأكثر نبالة ، فإنهم ينقلبون إلى بدائل عنها : السينما ، الأفلام المصورة ، الجاز ، مجلات تبسيط العلوم ، التصوير الفوتوغرافي. أما الطبقات الشعبية فلا يفضل لها إلا الفتات والبقايا ، إذا ما صدقنا بورديو بهذا الصدد ، وهو الذي يرفض فكرة وجود ثقافة شعبية ( التمايز ـ الفقرة 7 )، إنه ينادي بأن ثقافة المهيمن عليهم يحكمها مبدأ الضرورة ؛ فليست لديهم الوسائل التي  لا تجعلهم غير مبالين .

إن توزع هذه المشروعات هو أبعد عن أن يكون جامدا ؛ فهناك تنويعات شعبية للموسيقى الكلاسيكية ( AISES على سبيل المثال ) وبعض النشاطات تتدمقرط ( التنس والغولف ) ، ويحدث حتى أن بعض الأحكام ( الموقدة للنار في لحظة ما ، تتحول عن طريق لعبة للقلب إلى أحكام ” فاخرة ” في أوساط معينة ( أنظر في أيامنا هاته إلى أغاني كلود فرانسوا أو أقزام الحديقة ).

إن الثقافة ليست إلا الجزء الأكثر بروزا للتطبع ؛ فهذا الأخير يصنع بالفعل مجموع السلوكات الاجتماعية : التغذية ـ الأدوار الذكورية أو الأنثوية ـ طريقة الجلوس إلى المائدة ـ اللغة . . . إن التطبع يحدد ما هو خير و ما هو شر، ما هو جميل و ما هو قبيح، وما يبدو متميزا لشخص ما ( سيارة من نوع 4×4 بالنسبة لأحد الأغنياء الجدد على سبيل المثال ) قد يبدو فجا بالنسبة لشخص آخر ( الأرستقراطي مثلا ).

المملوكون من قبل ما هو اجتماعي

إن منطق التميز يندفن في الهيمنة، وما يشكل قوة هذا التأثير بالنسبة لبورديو هو أنه ينغرس في أعماق النفوس والأجساد ، والبنيات الاجتماعية هي نوعا ما ” مستنسخة ” من البنيات العقلية ، ونحن في الجزء الأعظم من اهتماماتنا ومشاغلنا لا نفكر : إذ نحن نتحرك على قاعدة التصور الذي لدينا عن العالم والذي تعلمناه ، إننا ” أسرى اللعبة ” الاجتماعية ، واللعبة ( أي منطق التمايز والهيمنة ) يتم نسيان أنها كذلك ، وتمكن هذه القدرة على الفعل بدون تفكير ( الحس العملي ) حسب بورديو من تجاوز الهوة الفاصلة في ما بين الموضوعية والذاتية ؛ فالبنيات الاجتماعية الموضوعية مكون من مكونات ذاتيتي ، وهذه تشارك الأخرى.

وهكذا ، فالمعايير وترميز الأدوار الأنثوية و الذكورية على سبيل المثال هو ترميز مطبوع في الأجساد ؛ ففي مجتمع القبائل يجد الرجل نفسه مضطرا للوقوف مستقيما وللأكل بطريقة فظة ، في حين أن المرأة مطالبة بأن تتحرك بتحفظ ومرونة وأن تأكل ” بأطراف شفتيها ” ( الحس العملي ) ، وبورديو يلح في كتابه ” التمايز ” على هذا التسجيل الجسدي للحركة؛ فالرياضات الشعبية مثلا ( كرة القدم ـ الكرة الطائرة ـ الملاكمة ) تعلي من شأن روح التضحية والقوة، أما رياضات الطبقات الوسطى والعليا ( الغولف ـ التني ـ الفروسية ) فتعطي الامتياز للرحابة والمسافة وغياب الاتصال المباشر. الأفضليات الغذائية لدى الطبقات الشعبية موجهة من قبل بحث لاشعوري عن القوة والمنفعة : فهذه الطبقات تحب اللحم والذهون ، أما الطبقات الوسطى فتروم بالأحرى التفنن في الأكل والطعام الخفيف : فالجسد في حاجة للرشاقة أكثر مما هو في حاجة للمتانة. إن المهيمن عليهم لا يعون هذه الميكانيزمات التي تمارس عن طريقها الهيمنة ، إلا أن المهيمنين أيضا لا يعونها : وقد ساءل بورديو الباطرونات مؤخرا خلال ملتقى باطرونات كبريات وسائل الإعلام ( فوكس ـ بيرتيلسمان ـ آوول ـ كنال بلوس . . . ) قائلا: ” هل تعرفون ماذا تفعلون ؟ ..” (2) . ومع ذلك فقد أسيء استخدام مصادرة اللاوعي هاته في كتاب لبورديو ذاته هم ” بؤس العالم ” ؛ فهذا الكتاب الجماعي المنشور سنة 1993 مشكل من سلسلة من الحوارات المونوغرافية ، بيد أن ما يفاجئ عند قراءته هو أن لدى الناس عملية انعكاسية وأنهم واعون في الجانب الأعظم بميكانيزمات الهيمنة. وهكذا فقد ساعدت البلدية العامل الاجتماعي الذي أنشأ جمعية وشركة لسيارة الإسعاف في إنشاء شركته ، ولكنه يعتقد أنها ستستفيد من هذه العملية سياسيا؛ ” إن كل بنيات السلطة تقوم على قاعدة السلط الصغيرة التي لها مع هذه السلطة علاقة ارتهان من أجل أن ترفع من قيمتها وشأنها” كما علق العامل على ذلك.

وبشكل عام فإن هذه المحاور الكبرى لنظرية بورديو ، والتي بلورها في كتابه ” تأملات باسكالية ” ، تقوم على الاقتراح التالي : ليست هناك أفكار خالصة ؛ فالإنتاجات الفكرية ( الفلسفة، الإيديولوجيات والأدب أيضا ، الخيال ، الإبداع ) هي كلها تعابير عن البنيات الاجتماعية لعصرها. إن وجه الكاتب أو الفنان المستقل ، والمبدع ( المجسد من قبل شخصيات مثل فلوبير أو ماني ) هو بناء اجتماعي ـ تاريخي لم يبرز إلا في القرن 19 ” قواعد الفن “.

العنف ( الرمزي ) بالمدرسة

قبل دخول الفاعلين في الممارسة اليومية تكون المعايير قد ترسخت في أذهانهم عبر عملية التطبيع الاجتماعي وعبر سيرورات إيديولوجية يشير إليها بورديو باسم العنف الرمزي. ومن خلال إجرائه لبحث بمعية كلود باسرون على الطلبة في الستينيات ، لاحظ بورديو اللامساواة في ولوج التعليم الأولي؛ فأبناء العمال ممثلون بشكل كبير بنسبة ضئيلة ( يمثل الطلبة 10÷ من 35 ÷ من السكان النشيطين ) إن السلوك اتجاه المؤسسة المدرسية والعلاقة معها هما أيضا غير متماثلين بكثير تبعا للأصل؛ فالطلبة البورجوازيون يعتقدون أنهم موهوبون : إذ أنهم يعلنون موقفا صريحا وكراهية للتقنيات الأكثر مدرسية ، ولديهم ” ضمان للوضعية ” هو عبارة عن تطبع الطبقة. وبالفعل، فالثقافة المرفوع من شأنها وقيمتها من قبل المؤسسة مألوفة لديهم لأنها ثقافة وسطهم الاجتماعي. أما طلبة الطبقات المتوسطة والشعبية فلديهم سلوك معوز لأنهم يعتقدون أن بإمكان المدرسة أن تمنحهم النجاح المدرسي.أما المدرسون فهم متواطئون مع هذا النظام : فهم يضفون القيمة على ” إيديولوجية الهبة ” والعمل اللامع. الثقافة الجامعية إذن إرث بالنسبة للبعض، وتعلم بالنسبة للآخرين. وفي كتابه ” نبالة الدولة ” 1989 يتابع بورديو تحليلاته ؛ حيث إن قراءة تقرير لجنة التحكيم في مباراة التبريز تؤكد يؤكد ” النبرة الطيبة ” الجامعية : فالمرشحون مطالبون بالبرهنة على رزانتهم وعلى تهذيبهم وكياستهم وموهبتهم ونباهتهم ، إنهم مطالبون بتحاشي الطبقات الكادحة والادعاء والطمع والسوقية.

إن فرض معايير الامتياز هاته يتم عن طريق خدع ومن خلال ستر وإخفاء علاقات الطبقة بالهيمنة: إنها تشتغل بالعنف الرمزي ، إنها احتجاب يستهدف المتعلمين والمعلمين أيضا : ” إن البروفيسور الذي يعزو لهذا التلميذ أو ذاك من تلامذته صفات ونعوت البورجوازية الصغيرة سيتم استنكار موقفه إن لم يتم اتهامه بإقامة أحكامه على اعتبارات طبقية ، حتى ولو كانت ضمنية”.

وليست المدرسة هي المؤسسة الوحيدة التي تنتج العنف الرمزي ؛ وهكذا فالتمثلات التي تنتجها الصحافة المتلفزة ” تُفرض أحيانا على الأكثر خصاصة كمنطوقات معدة سلفا لما يعتقدون أنها تجربتهم” ” بؤس العالم ” ، والنظام السياسي محلل في إطار منظور مماثل. إن هناك ” نزعة وهم ديمقراطي ” توهم الجميع أن لهم نفس الحق في الرأي والتعبير. و الحقيقة هي أن السياسة مجال محتكر من قبل الطبقات المهيمنة، وللمهيمن عليهم نزوع للاعتقاد بأنهم غير أكفاء في هذا المجال ، لذلك فهم يقصون أنفسهم ذاتيا من الحياة السياسية بالتخلي عن سلطة القرار لديهم ، وبذلك يكون نظامنا نظام حظر مقنع (3).

إعادة إنتاج الهيمنة

إن الهيمنة في حاجة أيضا إلى الامتداد في الزمن ، والمدرسة تبدو عبر الغربلات العديدة التي تقوم بها أداة لتعميق الفوارق الاجتماعية.إن كبريات المدارس هي في قلب عملية إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية المهيمنة، وهي أيض أكثر انتقائية اجتماعيا من الجامعة؛ فهي تستقبل جزءا هاما من التلاميذ المنحدرين من الطبقات المهيمنة ( 60÷ وأكثر بالمدرسة الوطنية للإدارة ومعهد الدراسات العليا في التجارة HEC ,ENA أو مدرسة العلوم السياسية ) . وفضلا عن ذلك فتراتبية هذه المؤسسات تعيد تفصيل المواقع داخل الفضاء الاجتماعي : فنحن نجد أبناء الصناعيين بمدرسة الدراسات العليا في التجارة HEC ، في حين نجد أبناء الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة. إن هذه المؤسسات متجانسة اجتماعيا ومنغلقة على ذاتها، وهي تساهم بذلك في نحت ” روح الجسد “.

وهكذا ، فلخلق أسطورة الاستحقاق ( الاستحقاقوقراطية Méritocratie ) تستخدم المدارس الكبرى كأدوات في خدمة استراتيجيات إعادة إنتاج المهيمنين ، وبورديو يشير إلى أن وجه العصامي ( الذي يصنع نفسه بنفسه ) لا يمثل إلا استثناء : فنحن لا نجد إلا 3÷ من أبناء العمال ضمن فئة كبار الباطرونات.

بيع الفتيل

لقد فرضت أعمال بورديو المتعلقة بالمدرسة ذاتها باعتبارها نموذجا حقيقيا، وذلك من خلال إعادة النظر في أسس الإيديولوجيا التربوية (4)، وهي كاشفة عن التصور كما هي كاشفة عن تصور صاحبها وعن وظيفته السوسيولوجية، فسواء تعلق الأمر بدمقرطة التعليم أو بالاستفتاء أو التفضيلات الثقافية أو العلاقات في ما بين الرجال والنساء ، فإن هدفه كان دائما واحد : وهو الكشف عن ما يكمن ويختفي خلف الأوهام والمظاهر السطحية للعبة الاجتماعية.

لقد أرادت سوسيولوجيا بيير بورديو إذن أن تكون سوسيولوجيا للكشف عن المستور : فهو حسب كلماته ذاتها ذاك الذي ” يبيع الفتيل ” ، ولهذا الوضع عواقب : فإذا كانت السوسيولوجيا تكشف وتميط اللثام ، فإنها سوف تزعج الماسكين بزمام النظام. وكما يقول لنا بورديو على سبيل المثال من خلال تبيانه أن الوسط العلمي هو أيضا مجال للمنافسة فيما بين المراكز المهنية والمختبرات ، فإن السوسيولوجي يعارض هذا العالم الصغير . وخطر منطق مثل هذا يتمثل في تجميد السوسيولوجي وتحنيطه في وضع بطولي : فالانتقادات الموجهة لبورديو تم في الغالب وقبليا إدانتها باعتبارها معبرة عن أولئك الذين يرومون الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم.

لقد قادت إرادة إرباك أولئك الذين يمارسون عملية شد الحبل بورديو مؤخرا إلى التصدي للقطاعات التي لم يكتشفها بعد منهجيا كما فعل في معظم أعماله ، وهذه بالخصوص هي حال كتابه ” حول التلفزة ” الذي تمت في الوقت الذي يؤكد فيه أنه يعرض ” مكتسبات البحث بخصوص التلفزة ” عملية محاكمته بقسوة لجهله بعديد من الأعمال التي أنجزت في إطار سوسيولوجيا وسائل الإعلام ، ولغياب المتكأ التجريبي فيها(5).

مؤاخذة لا يمكننا توجيهها إليه إلا بصعوبة بالنظر إلى العدة الهائلة من المعطيات والمناهج التي يستخدمها عموما ، فهو في كتابه ” نبالة الدولة ” على سبيل المثال ، يستغل البحوث الإحصائية وقياسات الرأي والحوارات الجيدة ونصوص الأبحاث وسجلات المؤسسات والملاحظات حول سير الحياة . . . إلخ. إن بورديو يدافع بالفعل عن تصور مطالب بسوسيولوجيا علمية ، وهو ثمرة لعمليات ذهاب وإياب في ما بين البناء النظري والتأكيد التجريبي ، تصور طوره في كتابه ” مهنة عالم الاجتماع ” المؤلف بشراكة سنة 1968 مع كلود شامبورديون و ج.ك. باسرون . لنلاحظ خلال عملية العرض هاته أن اختياراته الميتودولوجية قد استطاعت أن تتطور عبر الزمن ، وهكذا فإن كتابه ” بؤس العالم ” هو كتاب مبني على قاعدة حوارات يتوجه خلالها الباحث نحو المبحوث بحديث من نوع ” الحديث العادي ” ، وهو منهج يقوم حسب البعض على مراوغات جلية : فرض الإشكاليات وتوجيه الإجابات . . . إلخ.

يبقى أن إنجاز بيير بورديو يحتل مكانة مركزية في إطار المناظرة العلمية ، في السوسيولوجيا كما في العلوم الإنسانية عموما، وتقوم هذه السلطة على بهارات متعددة ؛ فلهذه السلطة في المقام الأول خاصية جاذبة ومستفزة ، وذلك من خلال كشفها عن كواليس ما هو مجتمعي ( الفوارق المدرسية ، محددات الذوق الثقافي . . ) ، وقد أظهر صاحبها أنه مجدد سواء عبر تعبئة التقنيات العلمية المتنوعة أو عبر ابتكاراته المفاهيمية : فلقد جددت مفاهيم التطبع والحقل والتميز والعنف الرمزي التحليل السوسيولوجي بعمق .

وبشكل أعم ، فإن قوة عمل بورديو تتمثل دون شك في كونه شيد خطاطة نظرية متفرعة وموحدة في نفس الآن على قاعدة تنوع كبير للمجالات والميادين ، ومن خلال تركيب عديد من المنابع النظرية : كارل ماركس ( علاقات الهيمنة ) ، ماكس فيبر ( أهمية المعنى الذي يعطيه الفاعلون لحركتهم ، مفهوم الشرعية ) ، إميل دوركهايم ( المنهج السوسيولوجي ) ، جاستون باشلار ( بناء الموضوع ) ، تورستن فيبلن ( الاستهلاك البذخي ) ، جون أوستين ( وظائف الكلام ) ، وأيضا نوربير إلياس ، إرفينغ جوفمان ، بازيل بيرشتاين ، إيمانويل كانط ، كلود ليفي شتراوس ، لودفيغ فتجنشتاين . . . لقد عرف بورديو كيف يمزج تأثيرات متعددة من أجل إقامة نظام متماسك يلخصه هو ذاته في كتابه ” التمايز ” من خلال المعادلة التالية: (تطبع)(رأسمال)+حقل=ممارسة.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

**************

هوامش:

  1. دوركهايم ” الانتحار ” 1897 ، طبعة ثانية ، 1997 م ج ف .
  2. أنظر ليبراسيون ، 13 أكتوبر 1999.
  3. هذا التحليل معمق في كتاب د. جاكسي ” المعنى المستور ، الفوارق الثقافية والميز السياسي ” 1978.
  4. أنظر ف. دوبي: السوسيولوجيا والتربية ـ ماغازين ليتيرير رقم 369 أكتوبر 1998.
  5. أنظر بخصوص هذه النقطة نصوص د. بونيو في نفس العدد السابق من ماغازين ليتيرير ـ س. لوميو في ب. لاهير ” عمل بيير بورديو السوسيولوجي ” ، لاديكوفيرت ، 1999.
  6. أنظر ف. مايير ـ الحوار حسب بيير بورديو ـ المجلة الفرنسية للسوسيولوجيا ، 35 ، 1995.

معجم بيير بورديو الصغير :

الرأسمال: ليس المال وحده هو الذي يهم في الحياة ، فالرأسمال الثقافي بالنسبة لبورديو ( الديبلومات ، المعارف ، الأساليب الجيدة ) والرأسمال الاجتماعي ( شبكات العلاقات ) هي في أوضاع عديدة مصادر أكبر نفعا من الرأسمال الاقتصادي.

الحقل: الحقل الجامعي، الحقل الصحافي، الحقل الأدبي. . .إن هذه ” العوالم الصغيرة ” تقابل خانات في المجتمع، إنها فضاءات للهيمنة والصراع: والحقل هو أيضا سلة عقارب ، غير أن لكل حقل استقلالا ذاتيا معينا ويمتلك قواعده الخاصة، إنها حقول للقوة يتحرك الأفراد داخلها، كما هو الحال في لعبة الشطرنج، من مواقعهم الخاصة.

التطبع: التنس ، البادية ، الجاز ، الطبخ الصيني ، سفر ثقافي ومجلات التسطيح: تتواجد هذه الممارسات خاصة لدى الطبقات الوسطى المتعلمة، وهي تحدد في مجموعها تطبعا ، أي مصفوفة محددة من قبل موقعنا الاجتماعي الذي يجعلنا نرى العالم ونتحرك داخله. ويترجم التطبع من خلال أنماط العيش ، غير أنه يترجم أيضا من خلال الأحكام ( السياسية ، الأخلاقية ، الجمالية ) ، إنه ليس مجموعا من المعايير ، فهو أيضا أداة للفعل تمكن من خلق وتطوير استراتيجيات معينة.

العنف الرمزي: إنه التطويع النافع للرؤوس ، ويتمثل العنف الرمزي في جعل مظاهر الهيمنة ( الدوكسا ) تبدو كما لو كانت “طبيعية”  في أذهان الناس، وهو يتم تطويره من خلال المؤسسات ويتكئ على تأثيرات السلطة. إن نقل الثقافة المدرسية عن طريق المدرسة بالنسبة لبورديو مثلا ( وهي التي تقود وتحكم معايير الطبقات المهيمنة ) هو عنف رمزي ممارس على الطبقات الشعبية.

التمايز: أن تكون متميزا يعني أن تعمق اختلافك. إن فن التميز البورجوازي مثلا هو أن تتميز الذات بدل أن لا تكون متميزة عن لاشيء، عبر المعارضة بالتباهي والاعتراض على سوقية الغني الحديث عهد بالغنى. إن التمايز هو في قلب اللعبة الاجتماعية ، إنه محرك سلوكاتنا : ثقافة وتربية وأوقات فراغ ومطبخ ولغة.

الهشاشة اليوم في كل مكان

بقلم : بيير بورديو

عن : نقيض نار(نصوص من أجل خدمة حركة مناهضة المد النيوليبرالي)أبريل 98.

إن مجهود التفكير الجماعي الذي مورس هنا خلال يومين متتاليين هو مجهود جد أصيل ؛ وذلك لأنه جمع أناسا لم تتوفر لهم أبدا فرصة الاجتماع والاحتكاك ببعضهم البعض : مسؤولون إداريون وسياسيون ، نقابيون ، باحثون في الاقتصاد وعلم الاجتماع، عمال هم غالبا مؤقتون وعاطلون . إنني أحب أن أذكر بعض المشاكل التي نوقشت خلال هذين اليومين، وأولاها، والتي هي مقصاة ضمنيا في الاجتماعات العالمة، تتمثل في السؤال التالي: ما الذي سينتج في المحصلة عن كل هذه المناظرات ، أو بعنف أكثر ، ما هي الأغراض التي ستخدمها هذه النقاشات الفكرية؟.. وبشكل مفارق فإن الباحثين هم الذين سيقلقون أكثر من هذا السؤال، أو إن هذا السؤال هو سؤال باعث أكثر على القلق ( وأنا أعني هنا خاصة الاقتصاديين الحاضرين معنا هنا ، وإذن فأولئك الذي يقلقون من حقيقة الواقع الاجتماعي أو حتى من الحقيقة على الإطلاق لا يمثلون إلا قليلا مهنة هم بداخلها جد ناذرين ) بالنسبة لذاك الذي يرى السؤال وهو يطرح بشكل مباشر(وتلك بدون شك أحسن طريقة لطرح السؤال). إن الواقع بوصفه قاسيا وساذجا يذكر الباحثين بمسؤولياتهم التي يمكن أن تكون أكبر وأضخم على الأقل عندما يساهمون بفعل سكوتهم ومشاركتهم الفاعلة في الحفاظ على النظام الرمزي الذي هو شرط اشتغال النظام الاقتصادي.

 ويبدو واضحا أن الهشاشة اليوم هي في كل مكان ، في القطاع الخاص كما في القطاع العام أيضا الذي ضاعف المناصب المؤقتة أو النيابية بداخل المقاولات الصناعية وأيضا بمؤسسات الإنتاج والنشر الثقافيين، تعليما وصحافة ووسائل إعلام . . . إلخ، حيث تحدث تأثيرات هي دائما متشابهة تقريبا ، تصبح منظورة بشكل خاص في حالة العاطلين القصوى : تحطيم بنية الوجود المحروم ، إلى جانب أشياء أخرى ، من بنياته الزمنية،وانحطاط مجموع العلاقة بالعالم ، بالزمان والمكان التي تعقب ذلك.إن الهشاشة تفعل فعلها بعمق في ذلك أو تلك التي تصاب بها، بإحالة كل المستقبل مستقبلا غير مأمون، إنها تحظر أي استباق عقلاني وبخاصة هذا الحد الأدنى من الإيمان أو الأمل في المستقبل الذي يجب امتلاكه من أجل امتلاك القدرة على الثورة أو التمرد ، جماعيا خاصة ، على الحاضر حتى أكثره عدم قابلية للتحمل.

وتنضاف لتأثيرات الهشاشة على أولئك الذين تمسهم مباشرة ، التأثيرات الممارسة على مجموع الآخرين الذين يبدو ظاهريا أنها تستثنيهم، إنها لا تمكن أحدا من نسيانها ، إنها حاضرة في أية لحظة ، في جميع الأذهان ( ما عدا بدون شك أذهان الاقتصاديين الليبراليين ، وذلك لأنهم ربما وكما لاحظ أحد خصومهم النظريين ، يستفيدون من هذا الضرب من النزعة الحمائية التي تمثلها الإقطاعة ، أي وضعية الترسيم التي تضمن لهم الأمان . . . ) إنها تخز الضمائر وتلاحق غير الواعين .إن وجود جيش هام من الاحتياطيين لم نعد نجده فحسب بفعل الإنتاج الزائد لحملة الشواهد على المستويات الأدنى من حيث الكفاءة والتأهيل التقني ، يسهم في جعل كل عامل على حدة يحس بفقدانه لما لا يمكن تعويضه ، وبأن عمله أو وظيفته امتياز نوعا ما ؛ امتياز هش ومهدد ( وذلك ما يذكره به إضافة إلى ذلك عند طيشه الأول مشغلوه والصحافيون والمعلقون من كل لون وجنس في إضرابه الأول ) . إن التهديد وانعدام الأمان الموضوعي يؤسس انعداما ذاتيا للأمن معمما يفعل فعله في يومنا هذا بقلب اقتصاد في أعلى درجات تطوره في مجموع العالم ، وحتى في أولئك الذين لم يمسسهم أو لن يمسهم مباشرة انعدام الأمان هذا. إن هذا الضرب من ” العقلية الجماعية ” ( وأنا أستعمل هذا التعبير رغم أنني لا أحبه كثيرا من أجل الإفهام فقط ) الموحدة في العصر بأكمله هي في مبدأ الحط من المعنويات وإخماد التعبئة التي يمكن ملاحظتها ( كما فعلت في الستينيات في الجزائر ) في بلدان متخلفة منكوبة جراء إصابتها بمعدلات انعدام الشغل أو التشغيل الناقص الكثيرة الارتفاع والمسكونة دوما بهاجس البطالة.

إن العاطلين والعمال المؤقتين ، نظرا لأنهم مسوا في قدرتهم على رسم مشاريع للمستقبل ، والتي هي شرط كل السلوكات المعتبرة عقلانية ابتداء بالحساب الاقتصادي ، أو في نظام مغاير تماما ، أي التنظيم السياسي ، فإنهم لم يعودوا قابلين للتعبئة أبدا. وبشكل مفارق ، كما أوضحت ذلك في العمل والعمال بالجزائر (1) ، وهو كتابي الأقدم وربما الأكثر راهنية من أجل تصور مشروع ثوري ؛ أي طموح معقول لتغيير الحاضر من خلال مرجعية مستقبل مرسوم ، فإنه يتوجب امتلاك حد أدنى من التجكم والإمساك بالحاضر. إن البروليتاري هو بخلاف البروليتاري ـ السفلي في هذا الحد من الضمانات الحاضرة والأمان الذي هو ضروري من أجل تصور طموح لتغيير الحاضر بعامل المستقبل المأمول، غير أنه وكما يقال ، هو أيضا شخص لا زال لديه شيء ما يدافع عنه ، شيء ما يفقده ، وهو عمله ولو كان مرهقا وتافه الأجر ، وعدد من سلوكاته الموسومة أحيانا بالحذر البالغ أو بالمحافظة حتى ، يهيمن عليها كمبدأ الخوف من السقوط إلى القاع والهبوط العائد نحو البروليتاريا ـ السفلى.

عندما تبلغ البطالة ، كما هو الحال اليوم في عدد من بلدان أوربا ، معدلات جد مرتفعة ، وتحيق الهشاشة بجزء هام من الساكنة : عمالا ومستخدمين في التجارة والصناعة ، وصحافيين ومدرسين وطلبة أيضا ، فإن العمل يصبح شيئا ناذرا ومرغوبا فيه بأي ثمن ، يضع العمال تحت رحمة مشغليهم ، وهؤلاء كما يمكننا أن نلحظ ذلك كل يوم ، يستخدمون ويفرطون في استخدام السلطة التي تمنح لهم جراء ذلك. إن التنافس من أجل الحصول على عمل يصبح زوجا لتنافس في العمل هو أيضا شكل من أشكال التنافس على العمل الذي يتوجب الحفاظ عليه وحمايته أحيانا بأي ثمن من ابتزاز التسريح. إن هذا التنافس الذي هو أحيانا بنفس وحشية التنافس الذي تمارسه المقاولات فيما بينها ، هو في جذر صراع حقيقي للجميع ضد الجميع مدمر لكل قيم التضامن الإنسانية ، وأحيانا ، في جذر عنف صامت بدون كلمات. إن أولئك الذين يأسفون لنزعة اللامبالاة التي تسم من وجهة نظرهم رجال ونساء عصرنا ، لا ينبغي عليهم إهمال مسألة إرجاعها للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تفرزها أو تشترطها .

وهكذا فإن الهشاشة تفعل فعلها في أولئك الذين تمسهم مباشرة ( وهي تجعلهم في حالة عدم القابلية للتعبئة ) وبشكل غير مباشر في كل الآخرين بفعل الخوف الذي تحدثه وتستثمره منهجيا استراتيجيات التفقير والهشاشة كإقحام ” المرونة ” الذائعة الصيت، والتي نفهم منها أنها مستلهمة من مبررات سياسية أكثر منها اقتصادية .        

نشرع بذلك في التشكك في أن الهشاشة ليست نتاج قدرية اقتصادية معروفة ومشبهة  ب ” العولمة ” الشهيرة ، وإنما هي نتاج إرادة سياسية . إن المقاولة ” المرنة ” تستغل نوعا ما بشكل واع وعن سبق إصرار وضعية لاأمان تسهم في تقويتها : فهي تروم الإنقاص من تكاليفها وأيضا جعل هذا الإنقاص ممكنا بتعريض العامل لخطر دائم بفقدان عمله. إن كل عالم الإنتاج المادي منه والثقافي ، العمومي والخصوصي ، يجد ذاته مدفوعا هكذا نحو سيرورة واسعة للتفقير والهشاشة مثلا من خلال تهجير المقاولة التي ارتبطت حتى ذلك الحين بدولة / أمة أو بمكان ما ( مضيق توران بالنسبة لصناعة السيارات ) ، وهذه المقاولة تنزع أكثر فأكثر نحو التحلل والتفكك من خلال ما يدعى ” المقاولة الشبكة ” التي تتمفصل على مستوى قارة أو على مستوى البسيطة بأكملها ، بوصل أجزاء الإنتاج والمعارف التكنولوجية وشبكات الاتصال ومدارات التكوين الموزعة على أماكن جد متباعدة.

بتيسر أو تنظيم حركية الرأسمال و ” التهجير ” نحو البلدان ذات الأجور الأكثر انخفاضا ، وحيث كلفة العمل أكثر ضعفا ، تم تسهيل انتشار التنافس فيما بين العمال على مستوى العالم ؛ فالمقاولة الوطنية ( أو التي أحيلت وطنية ) والتي كانت منطقة التنافس لديها مرتبطة بشكل قوي إلى حد ما بالتراب الوطني ، والتي كانت تذهب لغزو أسواق خارجية ، تنازلت عن مكانتها للمقاولة المتعددة الجنسيات التي جعلت العمال في حال تنافس لا مع مواطنيهم وحدهم فقط ، أو حتى كما يريد الديماغوجيون أن يوهمونا بذلك ، مع الغرباء المنزرعين بالتراب الوطني والذين هم بداهة أول ضحايا تفقير الهشاشة ، وإنما مع عمال الطرف الآخر من العالم الذين هم مكرهون على قبول أجور بئيسة.

إن الهشاشة تندرج ضمن نمط هيمنة من نوع جديد مشيد على تأسيس حال معممة ودائمة من اللاأمان تستهدف إكراه العمال على الخضوع للاستغلال وتقبله. ولرسم معالم نمط الهيمنة هذا الذي هو غير مسبوق تماما ولو أنه يشبه إلى حد بعيد في تأثيراته الرأسمالية المتوحشة الأصلية ، فقد اقترح أحدهم بهذا الخصوص مفهوما هو في نفس الآن أكثر تعبيرا وأكثر إيفاء بالغرض ألا وهو مفهوم Flexploitation (= الاستغلال المرن ) . إن هذه الكلمة تعرض تماما هذا التدبير العقلاني لحالة اللاأمان التي بإقامتها عبر الفبركة المقصودة لفضاء الإنتاج خاصة ، للتنافس فيما بين عمال البلدان التي تنعم بمكتسبات اجتماعية جد هامة ومقاومة نقابية أفضل تنظيما ـ وعديد من الملامح المرتبطة بتراب وتاريخ وطنيين ـ وعمال البلدان الأقل تقدما على المستوى الاجتماعي ، فإنها تكسر بذلك أشكال المقاومة وتحقق الطاعة والخضوع وتضمنهما عن طريق ميكانيزمات تبدو طبيعية ظاهريا ، وهي كذلك في أعين مبرراتها الخاصة.إن هذه الإجراءات الطبيعية التي تنتجها الهشاشة هي شرط استغلال ” ناجح ” أكثر فأكثر مؤسس على القسمة بين أولئك الذين ، وهم أكثر عددا ، لا يعملون ، وأولئك الذين ، وهم أقل فأقل عددا ، يعملون ، لكنهم يعملون أكثر فأكثر . يبدو لي إذن أن ما هو معروض باعتباره نظاما اقتصاديا مقادا من قبل قوانين لا تقبل المرونة لنوع ما من الطبيعة الاجتماعية هو في الحقيقة نظام سياسي لا يمكن أن يتشيد إلا عبر التواطؤ الفعال أو المنفعل من قبل السلطات المحض سياسية.

ضد هذا النظام السياسي يعتبر الصراع السياسي المناهض له مسألة ممكنة، ويمكن لهذا الصراع أن يحدد لذاته كهدف أول الحركة الإحسانية ـ المناضلة وتشجيع ضحايا الاستغلال وكل الموسميين الحاليين والمفترضين على العمل معا ضد تأثيرات الهشاشة المدمرة ( بمساعدتهم على العيش وعلى “الصمود” والتماسك ، على إنقاذ كرامتهم والصمود في وجه التدمير ، في وجه انحطاط صورة الذات وفي وجه الاستلاب ) والتعبؤ خاصة على المستوى العالمي ؛ أي على المستوى ذاته الذي تمارس فيه تأثيرات سياسة الهشاشة ، وذلك من أجل مقاومة هذه السياسة وتحييد التنافس الذي تروم إقامته في ما بين عمال مختلف البلدان. إلا أن هذا الصراع يمكن أيضا أن يحاول انتشال العمال من منطق الصراعات القديمة التي باعتبارها مؤسسة على المطالبة بالعمل أو بأجر أفضل مقابل العمل ، تنغلق بداخل العمل والاستغلال أو بداخل Flexploitation الاستغلال المرن الذي يسمح به هذا المنطق، وذلك بفعل إعادة توزيع العمل ( عبر إنقاص كبير للمدة اليومية للشغل على مستوى أوربا ) ، إعادة توزيع لا تقبل الانفصال عن إعادة تعريف وتحديد للتوزع بين الوقت المخصص للإنتاج والوقت المخصص لإعادة الإنتاج ، أي وقت الراحة وأوقات الفراغ.

ثورة يتوجب أن تبدأ من خلال التخلي عن النظرة الحسابية الضيقة والفردانية التي تحول الناس إلى حاسبات مشغولة بحل مشاكل معينة ، وهي مشاكل محض اقتصادية بالمعنى الأكثر ضيقا للفظ. وحتى يشتغل النظام الاقتصادي ، يتوجب أن يحمل له العمال شروطهم الخاصة للإنتاج وإعادة الإنتاج ، وأيضا شروط اشتغال النظام الاقتصادي ذاته ، بدءا بإيمانهم بالمقاولة وبالعمل وبضرورة العمل . . .إلخ ، وهي أشياء كثيرة أقصاها الاقتصاديون الأورثودوكس قبليا من محاسبتهم المجردة والمشوهة ، ملقين ضمنيا مسؤولية إنتاج وإعادة إنتاج كل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخفية لاشتغال الاقتصاد كما يفهمونه هم على الأفراد أو ، وتلك مفارقة أخرى ، على الدولة التي ينشدون فضلا عن ذلك دمارها.

                                                                        غرونوبل ، ديسمبر 1997    

****************************

  • مداخلة بمناسبة لقاءات أوربية ضد الهشاشة ، غرونوبل 12 ـ 13 ديسمبر 1997.

1) بورديو : العمل والعمال في الجزائر ، باريس ـ لاهاي ـ موتون ، 1963 ( بمعية أ. داريل ، ج.ب. ريفر ، س. سيبل ) ؛ الجزائر 60 . البنيات الاقتصادية والبنيات الزمنية ، باريس ، منشورات مينوي ، 1977.

نرجس وبروميثيوس

nargiss3
عن : مانيار دو فوار ، عدد شتنبر 93
nargisإن معنى الاحتضار هو الصراع ، هو المعركة، فكيف يمكننا في اللحظة التي يبدو فيها أن مجموع الأوجه الثقافية للحضارة الغربية قد تم جعلها مشرفة على الموت أن لا نتساءل عن الصراعات أو المعارك التي تنخرط فيها الثقافة ؟ .. إن كلا من المثقف والفنان والمبدع يعرف جيدا أن المجتمعات الغربية بلغت مرة أخرى نقطة مفترق الطرق ، فلقد دقت ساعة الاختيار من جديد ، لكن لا معالم هناك من أجل معرفة اتجاه المسير في لحظة الانحطاط هاته التي تسبق ميلاد عصر جديد . إننا نلج حقبة انهارت فيها اليقينيات ـ كما لاحظ ذلك إدغار موران ـ والعالم في لحظة غير مؤكدة بشكل خاص لأن كبريات المفترقات التاريخية لم يتم الانطلاق فيها بعد ؛ إننا لا نعرف إلى أين نمضي ، و لا نعرف إن كانت ستحدث هناك عمليات نكوص كبرى ، وما إذا لن نمضي حثيثا نحو حروب متسلسلة . إننا لا نعرف ما إذا كانت سيرورة التحضر ستؤدي إلى وضعية تعاون قليل أو كثير على مستوى البسيطة . إن المستقبل غير آكد بشكل كبير . 

782ima

ومع ذلك ، فكم من أوهام وآمال بعد الأحداث الخصبة في النصف الثاني من سنة 1989 : وبخاصة ثورة الحرير ببراغ وسقوط جدار برلين ونهاية التسلط ببوخاريست . إن التاريخ والأخلاق يتصالحان كما استطاع أن يؤكد ذلك الكاتب ( والرئيس ) التشيكي فاكلاف هافيل معتقدا أن ساعة بناء المجتمع الذي طالما حلم به عدد من المثقفين قد حلت أخيرا ، مجتمع مؤسس على الفضائل الديمقراطية ، على الأخلاق والمسؤولية ، مجتمع لن يكون الجوهري فيه هو الربح والسلطة ، وإنما روح الجماعة واحترام الآخر .

780imaفيالها من لحظة خادعة وعابرة ؛ ذلك أنه منذ ذاك الحين توالت وتلاحقت التغيرات الجارفة ، وجاءت كثير من الصور الأقل بطولية بكثير ، و ووريت الثرى صور انتصار الحريات و تم طمسها. وحتى نقتصر على أوربا خاصة ، فقد تمثلت هذه الصور في : صور حرب البوسنة والمشاهد الفظيعة للمدنيين المسحوقين من قبل عنف أوقع إلى الآن 140.000قتيلا و 70.000 معطوبا و 3 ملايين لاجئ . . . لقد أعيد تشغيل آلية العقاب التي تحدث عنها الروائي جورج شتاينر بتحفيز من الانفجار اللاعقلاني للقوميات ودوخة التشظيات وإعصار الأحقاد .


طفل فلسطيني ودبابة إسرائيلية

طفل فلسطيني

ورغم ذلك يقال إن القرن كان قد انطلق بأفكار جد كريمة لوجوه كبيرة : فرويد ، كافكا ، جيد ، روساندا . لقد تمثلت قوة الثقافة الأوربية حتى أواسط هذا القرن في الاختلاط والتهجين : فقد كان المرء يولد في بودابيست ويقيم في فيينا ويكتب بالألمانية ويتكلم الهنغارية.

bosnie

إن انفلات النزعات السادية والأفعال الهمجية من عقالها في يوغسلافيا السابقة يطرح مرة أخرى على فلاسفة عصرنا مسألة الشرط الإنساني ؛ فعمليات التنقية و التطهير العرقية تطيح ساخرة بفكرة الديمقراطية ذاتها وتشهد على إفلاس الأنوار ، كما تشهد أخيرا على عجز أوربا عن تحاشي هذه التراجيديا والحيلولة دون الجور وتقسيم البوسنة وتحقيق مشروعه الخاص للبناء الجماعي . إن الكاتبة سوزان سونتاغ التي أخرجت من أجل إبداء تضامنها مع الشعب البوسني في غشت الأخير بسراييفو مسرحية صاموئيل بيكيت في انتظار غودو تعتقد أن سكان سراييفو مثل غودو انتظروا بدون جدوى تدخلا أوربيا لم يحدث قط . . . . لا يمكن لأي خطوة من خطوات الحضارة أن تنبني على اللامبالاة إزاء جريمة ما ، والجريمة المرتكبة بسراييفو هي إحدى جرائم نهاية هذا القرن .

إن معايشة هذه الفاجعة الدموية تصب على المجتمعات الأوربية شيئا من وخز الضمير وشيئا شبيها بالشعور بالغثيان ، وهذا ينضاف لدى عديد من المبدعين إلى الانزعاج الناجم عن الخلط الإيديولوجي الحالي ، فقد أضحت مفاهيم ومحتويات اليمين و اليسار التقليدية في أعين الكثيرين جوفاء وفارغة بالكامل . إن أفق الأمل يبدو كما لو أنه تراجع إلى الحد الذي يجعل القلائل من الناس هم الذين لا زالوا يرون إمكانية ميلاد أحلام جماعية جديدة : لقد كانت لدى جميع الطلبة الذين كنت أدرسهم سابقا ـ يقول جورج شتاينر ـ نوافذ مشرعة على الأمل ، وقد كان هذا الأمل متمثلا في ماو أو أليندي أو دوبتشيك أو الصهيونية . لقد كان هناك دائما مكان نتصارع في إطاره من أجل تغيير العالم ، أما الآن فقد انتهى كل شيء . . .

وعلى شاكلة المجتمعات الغربية لم يعد غالبية المثقفين يرون أنفسهم بوضوح في مرآة المستقبل ؛ ويبدو أنهم مجتاحون من قبل البلبلة و مرعوبون بفعل صدمة التكنولوجيات الجديدة ومربكون بفعل عولمة الاقتصاد ومهمومون بفعل انحطاط البيئة، وقد أصبحوا حذرين اتجاه المؤسسات الكبرى ( البرلمان ، العدالة ، البوليس ، المدرسة ، الطب ووسائل الإعلام ) ، وأخيرا فقد انحطت معنوياتهم بقوة بفعل الفساد الزاحف ـ وريث البحث المحموم عن المال خلال الثمانينيات ـ والذي يصيب بالتآكل والفساد كل شيء .

ويظل المبدعون من جهتهم حيارى ؛ فاضطرابات وقلاقل شتى لا حصر لها تخض نظام العالم ، المعالم الأكثر استقرارا تتقمط وتستسلم ، وهو منجرفون بفعل السيل الجارف للأحداث . وما هو مذهل ـ كما لاحظ ذلك الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس ـ هو أننا كنا نحتفل منذ ثلاث سنوات بنهاية عجائبية وغرائبية للقرن ؛ لقد تحدثنا عن نهاية التاريخ وعن حل المشاكل وعن انتصار الرأسمالية والديمقراطية . ثلاث سنوات بعد ذلك نجد أنفسنا غارقين في أقصى حدود الحيرة والارتباك ، إن كل شيء هو برسم إعادة الصياغة والتشكيل ، وكل شيء هو برسم إعادة التفكير .

إن هذه القلاقل ذات التأثير الواسع تكره القارة العجوز وترغمها على إعادة الاعتبار للتضامن وتقارنه في نفس الآن بعودة النزعة القومية وبأزمة الاشتراكية . إن هذه القلاقل تحدث في لحظة تتسبب فيها حرب البوسنة والنقاش الدائر حول معاهدة ماستريخت وكذا أزمة النظام النقدي الأوربي وبناء أوربا في هزات عنيفة ، بناء أوربا ، هذه الأسطورة الحديثة التي أتينا على التساؤل عما إذا لم تكن مخلوقا من مخلوقات الحرب الباردة .

وينضاف لكل هذا التراجع الاقتصادي ، ويترجم هذا التراجع عن طريق تخفيض منتظم ومسترسل لليد العاملة وتفاقم للتسريحات الجماهيرية . إن منطق السوق والبحث عن الربح الأقصى ينتجان بذلك في أوربا الغربية البطالة والتفقير وتدهور مستوى المعيشة والتهديدات المنيخة بكلكلها على أنظمة الحماية الاجتماعية وعلى الإبداع الثقافي .

وبهذا الخصوص فإن مفاوضات الغات GATT ( الاتفاق العام حول التعريفة الجمركية والتجارة ) التي تم تضمينها أيضا مجالات تنتمي إلى ميدان الإنتاج الثقافي وبخاصة القطاع السمعي ـ البصري والصناعة السينمائية هي مفاوضات تخيف الأوساط الفنية . إن الولايات المتحدة التي فرضت نموذجها في المجال الثقافي الجماهيري هي مصممة بالفعل على إقبار توصية CEE التي تمكن من فرض كوطا للأفلام الأوربية على قنوات التلفزة بالقارة العجوز . والمبدعون المذعورون يقولون : إن عبقرية أوربا تباع بثمن بخس كما هتف متعجبا على سبيل المثال روجي بلانشون الذي وجد أن : غياب تفكير المنتخبين الأوربيين السياسي عن مجال الإبداعات الفنية من أجل مستقبل أممنا وقارتنا مسألة تثير الذعر . إن النتائج الاقتصادية القياسية تدخل بذلك في تناقض مع الديمقراطية ، لأن الرغبة في تحقيق هذه النتائج القياسية تناست التحذير الذي أطلقه الكاتب رايموند كونو منذ سنة 1938 ، والذي يقول : إن هدف أي تغير اجتماعي هو سعادة الأفراد وليس تحقيق قوانين اقتصادية لا يمكن تحاشيها  .

وأمام هذا الكم من القلاقل العصية على الفهم ، وهذا الكم من التهديدات والمخاطر ، فقد أصبح العديد من المواطنين يعتقدون أنهم في حضرة أفول العقل ، وأصبحت تراودهم هم ذاتهم فكرة الهروب بداخل صورة لعالم لاعقلاني ، فهل يتوجب أن نعجب منذ ذلك الحين من أن عددا كبيرا من الناس يتحولون نحو الجنان والفراديس الاصطناعية للمخدرات ، أو نحو العلوم المزعومة والممارسات الغيبية ؟.. هل نعلم أن أكثر من 10 ملايين شخصا بفرنسا كل سنة يستشيرون العرافين والمعالجين بالدجل ؟ ..وأن شخصا من بين اثنين يؤكد إيمانه بالظواهر الخارقة ؟.. وأن طوائف أصولية شبيهة بطوائف دلفيديي واكو تتكاثر وتتناسل ، وأيضا حركات ألفية كحركة العصر الجديد Mouvance New Age التي تضم قرابة 300.000 مريد بفرنسا (11) .

إن الناس يتسابقون أيضا نحو ألعاب الحظ و الاحتمال والصدفة ؛ فقد صرف الفرنسيون سنة 1992 في ألعاب السباق وأنواع اليانصيب المختلفة 65 مليارا من الفرنكات ! فالاستحقاق الخالص والجدارة لم يعودا كافيين من أجل النجاح كما يعتقد ذلك الأنثروبولوجي كريستيان برومبرجر ؛ فألعاب الحظ تستلزم السعي نحو اجتذاب ثروة كبرى في مجتمع فقد أسس يقينياته الجماعية . إن اللعب والمقامرة هما الوسيلة الوحيدة التي أصبح يعتمد عليها مجتمع تحيق فيه البطالة بشكل أعمى حتى بأكثر الناس جدارة ، وذلك من أجل تغيير مسار القدر . إن السعادة في فترة الأزمة هاته يتم تحسسها كما لو كانت عبارة عن كم منته . واللاعقلي يجتاح السياسة أيضا ؛ ألم نشهد خلال الانتخابات الأخيرة بكل من المملكة المتحدة وفرنسا ظهور حزب القانون الطبيعي الذي اقترح بجدية لا مزيد عليها كحل للخروج من الأزمة تنمية وتطوير الوساطة المتعالية وتشجيع التحليق والطيران عن طريق اليوغا ؟ ..

186ima

lotto

إن التلفزة التي تخلط الحياة الخاصة بالجلسة العمومية في برامجها الواقعية reality show تفسد مفهوم الواقعية ذاته وتتعهد اللاعقلانية الشاملة والكلية .

وأخيرا فإن أحد الكتب الأكثر رواجا بفرنسا هذا الصيف والذي تعقب خطوات البومة الذهبية ليس إلا استمرارا للألغاز و الشروحات الممكنة من اكتشاف كنز من الذهب والمال والماس بقيمة مليون فرنك  ! ..

114ima

لقد عرفت أوربا قبلا إبان الركود الكبير في بداية الثلاثينيات لحظة عاودت فيها الأساطير البدائية الظهور من جديد بديناميكية هي أساسا ديناميكية غريزية وعاطفية . إن إفلاس الحداثة ، الأزمات الاقتصادية ، التفكك الاجتماعي والطموح والتشوف الهوياتي تسببت حينها في نوع من انقشاع أوهام العالم وشجعت ، خاصة بألمانيا ، انبهارا باللاعقلي ، وهو الانبهار الذي استثمره اليمين المتطرف . لقد كان عديد من المواطنين الألمان ، كما كتب الكاتب بيتر راشل ، يريدون التجرد والانفلات من زمن حاضر لم يكونوا يفهمونه ، وفضلوا الانخراط والانغماس في عالم يخدع الأبصار .

لكن هذا المناخ المواتي للنازية تم فضحه بدون هوادة من قبل كتاب مثل توماس مان وفريتز لانج آمنوا بالفن السياسي واعتقدوا بإمكانية الجمع بين الحداثة وجوهر الالتزام .

في مناخ التشاؤم الثقافي الحالي يبدو أن فكرة الانكفاء الفرداني و التحريفية الجمالية أصبحت تستهوي عديدا من المبدعين وتراودهم . أما مبدعين آخرين ، ولو أن ذلك أصبح يبدو متجاوزا وعتيقا ، فإنهم اختاروا صف الالتزام ، وهكذا فقد عبر الرسام الإسباني ميجال بارسيلو الذي يعتبر من أكثر ممثلي الفن التشكيلي الجديد والمعاصر لمعانا ، والذي يعيش بمالي ، عبر عن ثورته وسخطه على الفوارق في ما بين الشمال والجنوب : ربما كانت الأشياء الأكثر فظاعة هي الأشياء الأقل إثارة ، كالطريقة التي يسحق بها الغرب العالم الثالث عن طريق البنك العالمي والقروض والسيطرة على المواد الأولية . إنها وضعية أكثر فظاعة من الاستعمار ؛ فعلى الأقل ، كانت بلدان الشمال خلال الفترة الاستعمارية تشعر بكونها ملزمة ببناء الطرق والمدارس ، أما الآن فهي غير ملزمة بأي شيء ، إنه النهب الخالص .

 

وهكذا فإن العديد من المبدعين بتواجدهم أمام البديل الكلاسيكي المتمثل في الاختيار في ما بين محاكاة نرجس المغرم بذاته ، أو بروميتيوس الذي تدخل لصالح الإنسانية ليسرق النار من الآلهة ويسلمها للبشر ، لا زالوا يفضلون هذا الأخير . إنهم لا يجهلون المخاطر المحدقة ، ويعرفون الاحتضار والآلام المبرحة التي لا تنتهي والتي حكم بها على التيتان Titan : حيث يأتي عقاب أو نسر ليفترس كبده التي تتجدد وتعاود الظهور دائما وهو مقيد بسلاسل airan على قمم جبال القوقاز ، لكنه يتحمل كل ذلك لأنه يعتبره تضحية من أجل الثقافة ورفعتها . ومرة أخرى فإن المبدعين يرفعون تحدي امتلاكهم الحق ، بفعل عبقريتهم ، للتعبير عن آلام المرحلة بشكل أفضل مما يمكن أن يقوم به السياسيون أو الخبراء . إنهم يتذكرون أيضا ، وحسب أخيل ، أن عذاب بروميتيوس سيتوقف في اليوم الذي سيحل فيه محله كائن لا يفنى ، وأنه إذ ذاك ، وإذ ذاك فقط سيتم إنقاذ البشرية .

المراقبة الشاملة

” في الماضي لم تكن لدى أية حكومة سلطة إبقاء مواطنيها تحت مراقبة دائمة ، أما اليوم فإن بوليس الفكر يراقب الجميع . . . وبشكل دائم “

جورج أورويل 1984

ramonetبقلم : إغناسيو راموني

لوموند ديبلوماتيك عدد غشت 2003.

كان على أولئك الذين عولوا هذا الصيف على الذهاب إلى الولايات المتحدة أن يعلموا أنه سيتم تقديم معلومات شخصية عنهم للجمارك الأمريكية دون موافقتهم طبقا لاتفاقية موقعة ما بين اللجنة الأوربية والسلطات الأمريكية ، وذلك عن طريق شركة الخطوط الجوية التي سيسافرون على متنها ، ومن ثمة فإن السلطات الأمريكية ، وحتى قبل أن تطأ أقدامهم أرضية المطار، ستعرف أسماءهم وأنسابهم وأعمارهم وعناوينهم وأرقام جوازات سفرهم وبطاقات السلف والحالة الصحية والاختيارات الغذائية ( التي يمكن أن تكشف انتماءاتهم الدينية ) وأسفارهم ورحلاتهم السابقة . . الخ.

إن هذه المعلومات سيتم تقديمها لجهاز للغربلة يسمى CAPPS ( جهاز حاسوب للمراقبة الوقائية ) ، وذلك للكشف عن مشكوك فيهم محتملين؛ حيث سيقوم هذا الجهاز بتقدير درجة خطورة المسافر من خلال التعرف على هويته ومقارنتها بالمعلومات المتوفرة لدى مصالح الشرطة ووزارة الدولة ووزارة العدل والأبناك وتصنيفه ضمن لون معين : الأخضر بالنسبة للمسالمين ، الأصفر في حالة الشك ، والأحمر بالنسبة لأولئك الذين سيتم منعهم من دخول الطائرة . وإذا كان الزائر مسلما أو من منطقة الشرق الأوسط ، فإن اللون الأصفر سيتم إلصاقه به بشكل أوتوماتيكي ، وبرنامج الأمن على الحدود يرخص لرجال الجمارك بأخذ صور للزوار وكذا بصماتهم.

الأمريكيون اللاتينيون هم أيضا مستهدفون ؛ فقد اكتشفنا أن 65 مليون مكسيكي و 31 مليون كولومبي و 18 مليون من دول وسط أمريكا وضعت لهم بطاقات دون علمهم ، وفي كل بطاقة تجد تاريخ ومكان الازدياد والجنس وهوية الأبوين والوصف الفيزيقي والأحوال المدنية ورقم جواز السفر والمهنة المصرح بها.

وفي الغالب تدون بهذه الملفات معلومات سرية أخرى كالعناوين الشخصية وأرقام الهواتف والحسابات البنكية وأرقام السيارات وكذا البصمات . ورويدا رويدا ، وبهذه الطريقة ، سيتم تبطيق كل الأمريكيين اللاتينيين من قبل واشنطن.

” الهدف هو إقامة عالم أكثر أمنا ، ويجب أن نكون على علم بالمخاطر المحتملة التي يمثلها الأشخاص الذين يطأون أرض بلادنا ” ، ذاك ما أكده السيد جيمس لي ، وهو أحد مسؤولي مقاولة Choicepoint التي تشتري هذه البطاقات أو الملفات من أجل إعادة بيعها للإدارة الأمريكية (1) ؛ وذلك لأن القانون الأمريكي يحظر تخزين المعلومات الشخصية ، لكنه لا يمنع من مطالبة شركة خاصة بالقيام بذلك لصالح الحكومة. وهذه الشركة التي يتواجد مقرها على مقربة من أتلانتا هي شركة معروفة وغير مجهولة ؛ فإبان الانتخابات الرئاسية بفلوريدا سنة 2000 كانت الدولة قد كلفت فرعها المسمى ( تكنولوجيا قواعد المعلومات Technologie Data Base DBT ) بإعادة تنظيم اللوائح الانتخابية بهذه الولاية . النتيجة هي حرمان  آلاف الأشخاص من حقهم في التصويت ، وهو ما أدى إلى تغيير نتيجة الانتخابات التي فاز بها السيد بوش ب 573 صوتا زيادة فقط . . ونحن نتذكر أن هذا النصر الصغير هو الذي مكن بوش من الوصول إلى سدة الحكم (2) .

إن المراقبة الصارمة واللصيقة ليست منصبة على الأجانب وحدهم في أمريكا ؛ فالمواطنون الأمريكيون بدورهم لا يفلتون من البارانويا السائدة حاليا ، لذلك فإن أنواعا جديدة من المراقبة التي يقرها قانون باتريوت Patriot Act تعيد النظر في الحياة الخاصة الشخصية للناس وكذا في سرية المراسلات، أما السماح بالتنصت على الهواتف فهو مسألة لم تعد ضرورية ؛ حيث يمكن للمراقبين الوصول إلى المعلومات الشخصية المتعلقة بالمواطنين دون أخذ إذن بذلك، وهكذا فقد طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI من المكتبات إيفاءه بلوائح الكتب والمواقع الإلكترونية التي يطلع عليها ويرتادها زبناؤها (3) من أجل رسم ” بروفيل فكري وثقافي ” لكل واحد منهم.

لكن أكثر مشاريع التجسس اللاشرعية هذه هذيانا هو المشروع الذي وضعه البانتاغون  تحت عنوان Total Information Awareness (TIA) أي نظام المراقبة الشاملة للمعلومات (4) والذي كلف به الجنرال جون بواندسكتر المتهم في الثمانينيات بكونه كان المحرض في قضية إيران كونترا . ويتمثل المشروع في تجميع ما لا يقل عن 40 صفحة من المعلومات عن كل ساكن من سكان الأرض البالغ عددهم 6 مليارات نسمة ، ومعالجتها وتحليلها عن طريق حاسوب عملاق . والبانتاغون يزمع من خلال تحليل ومعالجة كل المعطيات المتوفرة عن كل شخص رسم صورة أكثر ما تكون تكاملا عنه ـ الأداءات عن طريق البطاقة البنكية ، الاشتراك في وسائل الإعلام ، حركة الحساب البنكي ، المكالمات الهاتفية ، مواقع الأنترنيت المرتادة ، البريد الإلكتروني ، البطاقات البوليسية ، ملفات التأمين ، المعلومات الطبية والمتعلقة بالضمان الاجتماعي.

وكما هو الحال في فيلم ستيفن سبيلبرغ Minority Report ، فإن السلطات تعتقد أن بإمكانها أن تتنبأ بالجرائم قبل وقوعها : ” سيتقلص هامش الحياة الشخصية ، لكن مقابل أمن أكثر ، كما يعتقد ذلك السيد جون ب. بيتيرسن ، رئيس معهد إرلينغتون ، وسنستطيع أن نستبق المستقبل بفضل مقارنة كل المعلومات المتعلقة بكم ، وغدا سنعرف كل شيء عنكم (5) ” ، وهكذا يجد الأخ الأكبر نفسه متجاوزا . . .

هوامش :

(1) لاخورنادا ، مكسيكو 22 أبريل 2003 .

(2) الغارديان ، لندن ، 5 ماي 2003 .

(3) الواشنطن بوست ، النشرة الوطنية الأسبوعية ، 21 ـ 27 أبريل 2003 .

(4) وقد تم تغيير الإسم نتيجة احتجاجات المدافعين عن حرمة الحياة الشخصية إلى الإسم المذكور (TIA) ، إقرأ أرمان ماتلار ” تاريخ مجتمع المعلومة ” ، لاديكوفيرت ، باريس ، الطبعة الجديدة ، أكتوبر 2003.

(5)    إيل باييس ، 4 يوليوز 2002.  

أرجوحة الديمقراطية

هل الديمقراطية خدعة ؟ .. وهل تتضمن بطبيعتها أو بالقوة إما إمكانات العدالة الاجتماعية أو الظلم والإقصاء الاجتماعيين ؟ .. هل يمكن الحديث في الوضع العالمي الراهن ، الناحي نحو العولمة لكل شيء والمتميز بسيطرة الأسواق المالية عن إرادة ” ديمقراطية ” بداخل المجتمعات تكبحها وتوجهها الوجهة المعاكسة لطموحات الشعوب في العدالة والديمقراطية ” ديكتاتورية ” الأسواق المالية التي لا تعرف إلا منطق مصالحها الخاصة ؟ .. هل يتبقى بعد هذه الهيمنة شبه المطلقة هامش للمناورة والفعل يمكن من تحقيق المعادلة الصعبة ؟ .. في المقال التالي نجد توضيحا لهذه المفارقة وبعض الإيحاءات بالجواب.

بقلم: إغناسيو راموني

عن: لوموند ديبلوماتيك

انطلاقا من العديد من العلامات والإشارات نلحظ في مجتمعاتنا التي فقدت البوصلة الهادية عودة التساؤل المحير : هل تمت مصادرة الديمفراطية من طرف جماعة صغيرة من المحظوظين ؟ ..

ذلك أن هاجس ضرورة قيام الجمهورية على ” عقد اجتماعي ” هو الذي قاد ، خلال قرن ونيف ، الاشتراكيين الثوريين ( من ماركس إلى تروتسكي ، مرورا ببلانكو وباكونين ولينين ) باسم الحرية ، إلى مصارعة ” الديمقراطية البورجوازية ” ، في الوقت الذي قاد فيه اليمين المتطرف إلى محاولة إسقاط ” النزعة البرلمانية ” ، وبدا كما لو أن اندحار الفاشية سنة 1945 ثم انهيار الأنظمة الشيوعية سنة 1989 قد حل المشكلة ، وأصبح بمقدور أطروحة فرانسيس فوكوياما حول ” نهاية التاريخ ” أن تنتصر : فالديمقراطية شكلت الأفق المستعصي على التجاوز من قبل أي نظام سياسي، كما أمكن لأي كان التذكير بقولة ونستون تشرشل المشهورة التي تمدح الديمقراطية باعتبارها النظام الأهون شرا بخلاف كل الأنظمة الأخرى.

وبفضل هذا الإطراء انتشرت الديمقراطية في كل مكان ، في أوربا الشرقية وفي الدول المتولدة عن تفكك الاتحاد السوفياتي وأيضا في أمريكا اللاتينية ، وباستثناء وحيد متمثل في العالم العربي انتشرت في إفريقيا وآسيا ، إلى حد أنه غداة الحرب العالمية الثانية ، أضحت النظام السياسي المهيمن إذا استثنينا حالات ناذرة.

ومع ذلك فإن أعداد المشهرين بهذا النظام ، باعتباره خدعة ، تزايدوا يوما بعد يوم ، وفي المقام الأول بأوربا لأنه احتمل ظهور 20 مليونا من العاطلين و 50 مليونا من الفقراء . . . ولأن بعض الدول ( الأوربية ) انتهت إلى قبول نوع من العالمثالثية لمجتمعاتها ؛ فحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك العالمي ” فإن أشكال الفوارق في ما بين الفقراء والأغنياء بالمملكة المتحدة هي الأهم من نوعها في العالم الغربي ، مقارنة مع تلك القائمة في نيجيريا ، وبشكل أعمق مع تلك التي نجدها على سبيل المثال في جمايكا ، سريلانكا أو إثيوبيا (1) ” .

هكذا ( إذن ) يتصدع التماسك الاجتماعي ؛ ففي القمة تتقوى طبقة تغتني أكثر فأكثر ( 10 ÷ من الفرنسيين (مثلا) يستحوذون على 55 ÷ من الثروة الوطنية ) ، في حين ، وفي أسفل القاعدة ، تتسع جيوب الفقر متعاظمة . كما أن من المعروف أن المواطنين المهمشين ليس في مستطاعهم التمتع بالخريات الصورية وضمان ممارسة حقوقهم .

كل هذا يحدث في إطار الغلبة والانتصار فيه للمال : فقيمة المبادلات المالية هو 50 ÷ أعلى من قيمة المبادلات الفعلية للمنافع والخدمات ؛ فالأسواق المالية تفرض إرادتها على القادة السياسيين ، وإذا أمكن القول منذ عهد فريب أن ” مائتي عائلة ” امتلكت مقادير ومصير فرنسا ، فإننا نستطيع التأكيد راهنا على أن مصير كوكب الأرض متوقف على إرادة ” 200 من المدراء ” (2) .

لقد عملت الدول على تسريع وتيرة الحركة لتفعيل وضمان ديناميكية لسيرورة العولمة ، وذلك بإلغاء المراقبة على المبادلات وضمان حرية تنقل الرساميل بجعل الأبناك المركزية أبناكا ” مستقلة ” إلى حد أنها موقعت الأسواق المالية خارج متناول ومراقبة الحكومات التي ذهبت بدورها إلى التخلي عن أي إرادة مهما وهنت لوضع سياسة نقدية مستقلة، وذلك بقبول الخضوع لمنطق المصالح الخارجية المعاكس لمصالح مواطنيها.

إن النظام الديمقراطي ينتشر بدون عوائق على مستوى مجموع الكرة الأرضية جراء خضوع القادة السياسيين لديكتاتورية الأسواق المالية . في السابق مورست مقاومة ضارية لكل مشروع ديمقراطي من طرف الماسكين بناصية الرأسمال المتحالفين في الغالب مع قوات عسكرية : فمن الحرب المدنية الإسبانية (1936 ـ 1939) إلى الإطاحة برئيس الشيلي سالفادور أليندي سنة 1973 لا نعدم الأمثلة عن أنظمة ديمقراطية أقبرت بشكل تراجيدي لأنها تصدت للتفاوتات الطبقية بالتوزيع الأكثر عدالة للخيرات، ولأنها عقدت النية على تأميم القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد . أما اليوم، فإن الديمقراطية متساوقة بشكل متناغم ، بفعل تدمير القطاع العام ، مع أشكال الخوصصة وإعفاء حفنة من المحظوظين . . . الخ . لقد غدا بالإمكان التضحية بأي شيء ( والمكتسبات الاجتماعية في المقام الأول ) رضوخا لإكراهات الاقتصاد المالي، وفي أوربا أضحت معايير التقارب والاندماج المفروضة من قبل معاهدة ماستريخت مطلقات شبه دستورية. فكيف لا ندرك إذا أضفنا إلى كل ذلك قلة حياء القادة الذين يتسابقون بمجرد انتخابهم للإنكار والتنكر لوعودهم الانتخابية ( من السيد فوجيموري في البيرو إلى السيد كلينتون في الولايات المتحدة مرورا بالسيد كالديرا بفنزويلا والسيد شيراك بفرنسا ) ، وكذا الوزن اللامحدود لجماعات الضغط ( اللوبيات ) واستفحال الفساد لدى الطبقة السياسية ، كيف لا ندرك عوامل غياب المصداقية عنها ؟.. كيف لا يمكن الوقوف على أن هذه الديمقراطية المعطلة تمكن في المقام الأول من تنامي وتطور اليمين المتطرف ؟.. (3).

إن كل يوم يوضح كم يفضل المنتخبون، والحكومات بالخصوص ، اللجوء إلى كبريات وسائل الإعلام لمخاطبة المواطنين وعدم إعارة البرلمان أي اهتمام فـ ” أن تحكم هو أن تتواصل ” يقول لسان حالهم فيما يبدو ، ولكن واقع الأمر ، وبدواخلهم ، فإن التواصل مع المواطنين يعني الكذب عليهم.

كيف لا يمكن أن نتفهم غضب الناس في مجموع الاتحاد الأوربي وهم يتعرضون لمد من أنواع الظلم؟.. وبأي حق ينادي المسؤولون الماسكون بزمام السلطة السياسية ، خوفا من خريف غضب ساخن ، بضرورة السلم الاجتماعي وهم يمارسون الحرب الاجتماعية بشكل يومي ؟.. ذلك السلم الذي لا يمكن ضمانه وتأمينه إلا إذا تحولت الديمقراطية إلى قاعدة وأساس لعقد اجتماعي جديد.

هوامش :

(1) إلباييس ، مدريد ، 16 شتنبر 1996.

(2) ” قادة العالم الجدد ” طريقة في النظر رقم 28 نونبر 1995.

(3) أنظر كريستيان دوبري ” ديمقراطيات بدون صوت ” لوموند ديبلوماتيك ـ دجنبر 1992.

ديمقراطيات على المقاس

ديمقراطيات على المقاس

بقلم : إغناسيو راموني

لوموند ديبلوماتيك ـ مارس 2006

لقد ظلت الديمقراطية لمدة طويلة من الزمن صيغة ناذرة من صيغ الحكم ، وهي التي تم تقديمها في الغالب باعتبارها أفضا النظم السياسية ؛ وذلك لأن أي نظام لم يستطع أن يجسد بشكل كلي المثال الديمقراطي الذي يفترض سلامة طوية مطلقة من قبل الأقوياء اتجاه الضعفاء ، وكذا إدانة جذرية حقيقية لأي شكل من أشكال الشطط في السلطة ، ولأنه أيضا لا بد من احترام المعايير الخمس التي يلزم توفرها في أي نظام لكي يكون ديمقراطيا ، ألا وهي : الانتخابات الحرة ـ المعارضة الحرة والمنظمة ـ الحق الفعلي في التناوب السياسي ـ النظام القضائي المستقل وتوفر وسائل إعلام حرة . وحتى عندما توفرت هذه الشروط في بعض الدول ، فقد ظلت لمدة طويلة ، كما في فرنسا والمملكة المتحدة ، تتنكر لحق النساء في التصويت ، كما كانت هذه الدول ، فضلا عن ذلك ، قوى استعمارية تنال من حقوق المستعمَرين وتخرقها.

ورغم هذه النواقص ، فقد كان لهذا النهج في الحكم نزوع نحو أن يصير كونيا ، وذلك أولا بفضل التفعيل القوي للديمقراطية من قبل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون ( 1856 ـ 1924 ) ، ثم وبشكل خاص عقب انتهاء الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفييتي ، حيث تم الإعلان حينها عن ” نهاية التاريخ” بدعوى أنه لا شيء يقف في وجه كل دول العالم منذ ذلك الحين كي تحقق في يوم من الأيام هدفي السعادة القصوى المتمثلين في : اقتصاد السوق والديمقراطية التمثيلية ، وهما الهدفان اللذان تحولا إلى عقيدة لا يجوز المساس بها .

باسم هذه العقائد قدر السيد جورج بوش أن من المشروع بالعراق اللجوء إلى القوة والسجون السرية المقامة بالخارج ، أي أن من المشروع السماح لقواته المسلحة بممارسة التعذيب ، أو إخضاع السجناء بغوانتنامو لمعاملات غير إنسانية خارج أي إطار قانوني ، كما تم فضح ذلك مؤخرا عن طريق تقرير أعدته لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ، وكذا تقرير آخر صادر عن برلمان الاتحاد الأوربي.

ورغم هذه التجاوزات الخطيرة ، فإن الولايات المتحدة لا تتردد في التصرف على مستوى البسيطة كوصي ديمقراطي على الآخرين ؛ فقد ألفت واشنطن تسفيه خصومها من خلال نعتهم بشكل كلي بأنهم ” غير ديمقراطيين ” ، إن لم تصفهم بأنهم ” دول مارقة ” أو دول صعاليك أو بكونها ” منابت للإرهاب ” ، والشرط الوحيد للإفلات من هذه الوصمة هو تنظيم ” انتخابات حرة ونزيهة ” .

غير أن كل شيء في هذه الحالة الأخيرة متوقف على النتائج ، أي على نتائج هذه الانتخابات كما تبرهن على ذلك حالة فنزويلا ، حيث تم منذ سنة 1998 ولمرات عديدة انتخاب السيد هوغو تشافيز في إطار ظروف مضمونة من قبل مراقبين دوليين . لكن ذلك لم ينفع في شيء ؛ إذ استمرت واشنطن في اتهام السيد تشافيز بكونه يشكل ” خطرا على الديمقراطية ” ، بل ذهبت أبعد من ذلك ، أي إلى حد السعي إلى إحداث انقلاب في أبريل 2002 على الرئيس الفنزويلي الذي سيُخضع نفسه من جديد لحكم صناديق الاقتراع في شهر دجنبر المقبل .. .

وهناك أيضا ثلاثة أمثلة أخرى ـ في إيران وفلسطين وهايتي ـ تبرهن على أنه لم يعد كافيا أن يتم انتخابك بشكل ديمقراطي كي تحظى برضا واشنطن. لقد أجمع كل الملاحظين ، بالنسبة لحالة إيران ، على أن انتخابات يونيه 2005 كانت انتخابات رائعة : مشاركة جماهيرية مكثفة ، تعددية وتنوع للمرشحين ( في إطار النزعة الإسلامية الرسمية ) ، وبالخصوص حملة انتخابية باهرة خاضها السيد على أكبر هاشمي رافسنجاني ، وهو المفضل لدى الغربيين والمنتظر فوزه . لا أحد في تلك اللحظة تحدث عن ” الخطر النووي ” الذي تشكله إيران ، لكن كل شيء تغير بعنف بمجرد فوز السيد محمود أحمدي نجاد ( وهو من اعتبرت تصريحاته فضلا عن ذلك بخصوص إسرائيل تصريحات مستهجنة وغير مقبولة ) . وها نحن نشهد الآن حملة تشبيه إيران بالشيطان الخطير.

حتى ولو أن طهران هي من الدول الموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ، ورغم إعلانها عدم نيتها امتلاك القنبلة النووية ، ألم يقدم وزير خارجية فرنسا على اتهام إيران بأنها تجتهد في تنفيذ ” برنامج نووي عسكري سري ” ؟ .. ألم تطالب السيدة كوندوليزا رايس ، وزيرة خارجية الولايات المتحدة ، إثر النسيان السريع للانتخابات الإيرانية الأخيرة ، الكونغرس الأمريكي بتخصيص 75 مليون دولار لتمويل برنامج إيران ” للنهوض بالديمقراطية ” ؟..

نفس الوضعية أو تقريبا كذلك تشهدها فلسطين، حيث ترفض الآن كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ، بعد اشتراطهما تنظيم انتخابات ” ديمقراطية فعلية ” مراقبة من قبل حشد من المراقبين الأجانب ، يرفضان معا نتائج هذه الانتخابات بدعوى أن المنتصر فيها ، أي الحركة الإسلامية حماس ( المرتكبة لهجمات فظيعة على المدنيين الإسرائيليين ) لا تعجبهما .

وأخيرا بهايتي كان بإمكاننا أن نرى بمناسبة الانتخابات الرئاسية يوم 7 فبراير الأخير كيف أن كل شيء كان في لحظة أولى قد تم إعداده للحيلولة دون انتصار السيد روني بريفال ـ الذي فاز أخيرا رغم كل شيء ـ ، هذا الذي لا ترغب فيه ” المجموعة الدولية ” بأي ثمن ، وذلك بسبب علاقاته القديمة بالرئيس السابق جان برتراند أريستيد .

الديمقراطية ـ كما قال ونستون تشرشل ” هي أقل الأنظمة الأخرى سوءا ” ، وما يزعج اليوم هو عدم القدرة على التحديد القبلي لنتائج استشارة انتخابية ما ، وذلك عندما يحب البعض امتلاك القدرة على إقامة أنظمة ديمقراطية على المقاس ، وبنتائج مضمونة سلفا .

الفكر الأوحد

الفكر الأوحد
إن المواطنين الأحرار ، وهم منغمسون في الديمقراطيات الحالية ، يتزايد شعورهم أكثر فأكثر بأنهم مستغرقون من طرف عقيدة أخطبوطية ، تحاصر كل محاولة للتفكير مشاغبة ، وتحرمها وتخلخلها وتشلها وتنتهي بخنقها . هذه العقيدة هي الفكر الأوحد المسموح به وحده بواسطة قمع بوليسي للرأي غير مرئي ووحيد الحضور.
منذ سقوط جدار برلين وانهيار الأنظمة الشيوعية والحط من معنويات الاشتراكية ، تزايدت عظمة هذه الإنجيلية الجديدة وقدرتها على التحنيط ، وحازت درجة يمكن معها وصف هذه الغطرسة الإيديولوجية ، بدون مبالغة ، بالدوغماطيقية المعاصرة.
فما هو الفكر الأوحد إذن ؟ .. إنه بألفاظ وعبارات إيديولوجية ترجمة لنزوع كوني لمصالح مجموعة قوى اقتصادية ، وبالخصوص قوى الرأسمالية العالمية التي تمت صياغتها وعملية تحديدها منذ سنة 1944 إبان اتفاقيات بريتون وودز . إن هذه المنابع الرئيسية تتمثل في كبريات المؤسسات الاقتصادية والنقدية : البنك العالمي ـ صندوق النقد الدولي ـ منظمة التنمية والتعاون الاقتصاديين ـ الاتفاقية العامة حول التعريفة الجمركية والتجارة ـ اللجنة الأوربية ـ بنك فرنسا . . . الخ ، التي توظف لخدمة أفكارها على مستوى مجموع الكرة الأرضية مراكز أبحاث عديدة وجامعات ومؤسسات تنمق بدورها هذا الخطاب لصالحها وتعمل على نشره على أوسع نطاق.
ويتم التقاط هذا الخطاب المجهول ويعاد إنتاجه عن طريق كبريات المؤسسات الإعلامية ـ الاقتصادية ، وبالخصوص عن طريق ” أناجيل ” المستثمرين وأصحاب البورصة ـ صحيفة الوال ستريت ـ التايمز المالي ـ الإيكونوميست ـ مجلة الاقتصاد الغربي ـ وكالة رويتر . . . الخ ، والتي هي مملوكة في الغالب من طرف كبريات المجموعات الصناعية أو المالية .وتتلقف أخيرا في كل مكان تقريبا جامعات للعلوم الاقتصادية وصحفيون ورجال سياسة هذه الوصايا الأساسية المستخلصة من لوائح القانون الجديدة هاته ويعيدون تكرارها عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية ، علما بأن التكرار يساوي ويوازي في مجتمعاتنا المتوسطية عملية برهنة .
إن المبدأ الأول للفكر الوحد هو من القوة بحيث لا يستطيع أبدا ماركسي متساهل إنكاره : وهو سحب الاقتصادي على السياسي وتقديمه عليه ، وبالاستناد والاتكاء على مبدأ كهذا ، وكأداة من الأهمية بمكان في يد المنفذ على سبيل المثال، استطاع بنك فرنسا وبدون اعتراض يذكر إعلان استقلاليته سنة 1994 ، وبمعنى ما أضحى ” في منأى عن المخاطر السياسية ” .
” إن بنك فرنسا مستقل ، غير مسيس وشفاف ” يؤكد مديره السيد جان كلود تريشي الذي يضيف إلى ذلك : ” إننا نطالب بإنقاص الاختلالات العمومية ” و ” نتبع استراتيجية التوازن النقدي (1) ” كما لو أن هذين الهدفين ليسا هدفين سياسيين.
وباسم ” الواقعية ” و ” النزعة البراغماتية ” التي يصوغها السيد ألان مينك على الشكل التالي : ” لا يمكن للرأسمالية أن تنهار ، فهي الحالة الطبيعية للمجتمع ، والديمقراطية ليست هي الحالة الطبيعية للمجتمع ، إنها السوق “. (2)
إن الاقتصاد يتموضع في مكان القيادة ، واقتصاد متخلص من العائق الاجتماعي يخرج منفلتا من العوائق التي يشكل ثقلها سبب النكوص والأزمة.
المفاهيم / المفاتيح الأخرى للفكر الأوحد معروفة : إنها السوق ، المثال أو القدوة التي ” تصحح يدها الخفية الاختلالات الوظيفية للرأسمالية وتسويها ” ، وبالخصوص ، الأسواق المالية التي ” توجه ةتحدد علاماتها الحركة العامة للاقتصاد ” ، التنافس والقدرة عليه ، وهي ” تنبه وتنشط المقاولات وتقودها نحو عصرنة مجدية ودائمة ” ، التبادل الحر وبدون قيود ” وهو عامل التنمية المتواصلة للتجارة ، وبالتالي للمجتمعات ” ، عولمة الإنتاج ، سواء المانيفاكتوري أو القنوات المالية ، التقسيم الدولي للعمل الذي ” يصير المطالب النقابية معتدلة ويحفظ قيم الأجور ” ، العملة القوية ” وهي عامل الاستقرار ” ، الخوصصة ، التحرير . . . الخ ، التقليل الدائم من ” تدخل الدولة ” في الاقتصاد ، التحكيم الثابت لمصلحة عائدات الرأسمال على حساب عائدات العمل ، وتجاهل وإهمال إزاء الضريبة البيئية.
إن التكرار المتوالي لهذه ” النزعة الكاتيشية ” (3)  في كل وسائل الإعلام من قبل كل رجال السياسة تقريبا ، من اليمين كما من اليسار (4) ، يوفر لها قوة إقناعية يخنق كل محاولة للتفكير الحر ، ويجعل من المحال مقاومة هذه النزعة التعتيمية الجديدة (5) .
ناذرا ما يتم الإلتفات إلى 17,4 مليون عاطل أوربي ومعضلات المجالات الحضرية، الهشاشة المعممة ، الفساد ، الضواحي المحترقة ، التدمير الإيكولوجي ، إحياء النزعات العنصرية لدى الأصوليين الدينيين والمد المتنامي للمهمشين ، ويتم اعتبارها زوابع بسيطة ولحظية ، وأحلاما لليقظة مدانة وشاذة وغير متلائمة مع أحسن العوالم إنجازا وبناء بالنسبة لضمائرنا المخدرة ، أي عالم الفكر الأوحد.
هوامش :
(1)     لوموند ، 17 دجنبر 1994.
(2)     كامبيو 16 ، مدريد 5 دجنبر 1994.
(3)     كمثال نموذجي على هذا الفكر المهيمن : فرنسا سنة 2000 ، تقرير الوزير الأول ، منشورات أوديل جاكوب ، باريس 1994.
(4)     نحن نعرف الجواب الشهير للسيد دومينيك ستراوس كاهن ، الوزير الاشتراكي للصناعة بخصوص السؤال : ما الذي سيتغير لو فاز اليمين بالحكم ؟ .. حيث أجاب ” لا شيء ، فلن تختلف سياستهم الاقتصادية عن سياستنا ” ” وال ستريت ” صحيفة أوربا 18 مارس 1993.
(5)     هل هذا هو السبب الذي حدا بمجموعة من المثقفين من بينهم كي دوبور إلى تفضيل الانتحار في الأسابيع الأخيرة؟ ..