وضعية علوم الإنسان

3ـ المشكل المطروح على كل تصنيف:

وضعية علوم الإنسان

يمكن للمشكل الذي يطرح بالنسبة لتصنيف العلوم أن يقفنا على أربعة مشاكل : ما هي وضعية الرياضيات وعلم المنطق؟.. كيف ترتبط علوم الطبيعة فيما بينها؟..هل يمكن تصنيف البيولوجيا التي تدرس الإنسان أيضا ضمن علوم الطبيعة ؟.. وهل يمكن اعتبار العلوم الإنسانية علوما؟ ..

نريد أن نعالج هنا فقط علوم الإنسان التي توضع خاصيتها العلمية بين قوسين عن طريق صوت الشعب  la vox populi  أكثر مما توضع بين القوسين عن طريق القنوات الإيديولوجية، ومن طرف بعض العلماء والإبستمولوجيين أو الفلاسفة المهيمنين والمعتدين بأنفسهم.


لنحاول أولا تنظيم مختلف هذه الانتقادات وصياغتها:

1)      اعتراض أول صادر بالخصوص عن الفلاسفة الذين أرادوا بالاستناد إلى حس شعبي سليم ، يشتركون فيه لوحدهم ، حماية حديقة الفلسفة من أي اختراق علمي، رافضين بذلك حتى إمكانية وجود علوم للإنسان، وبذلك يقررون بأن الإنسان لا يمكن بفعل جوهره الإنساني أن يشكل موضوعا للعلوم. في معرض نقده لمواقف حراس المعبد هؤلاء ، والذين لا يمكن إحصاؤهم ، يختصر بيير تويليي هذا الدور الفاسد الذي يزعم الفلاسفة حصر إنسان العلم داخله؛ هكذا ” يقرر (…) أنه يجب أن تدرس علوم ” الفعل الإنساني الكلي ” ما دام الإنسان قد عرف باعتباره حرية سحيقة الغور لا تقبل الإرجاع قبليا للمقاربة العلمية، وليس مدهشا أن العلوم الإنسانية لم تستطع أبدا التوصل إلى إرضاء التعاقد المفروض عليها. إن التعاقب واضح : فإما أن المسعى علمي، لكنه لا يستطيع دراسة الإنسان “ الكلي ” ، وإما أن الموضوع المدروس هو حقا الإنسان ” الكلي ” ، لكن المسعى حينذاك لا يمكنه أن يكون علميا بشكل قبلي ” ( ألعاب ورهانات العلم  ص 199 ). إن هذه المطالب التي تبدو بدون معنى ، والمطروحة على العلم من قبل فلسفة ” كلية ” تصاحب باعتراضات تبدو ظاهريا أفضل تأسيسا : فالعلم لا يستطيع معرفة ” المعيش ” الذي يبدو أنه البعد الجوهري للفعل الإنساني، ويصطدم من جهة أخرى بمشكل منهجي تجهله علوم الطبيعة : فالإنسان هنا هو في نفس الآن ملاحظ (بكسر الحاء) وملاحظ ( بفتحها). وأخيرا تبدو الوقائع الإنسانية وقائع شخصية ومن طبيعة كيفية ، في حين أن العلم حسب الإبستمولوجيا الأولية التي يعشق باشلار التشهير بها لدى بعض الفلاسفة ” تكوين الروح العلمية ص 55 وما يليها ) لا ينشغل و لا يهتم إلا بما هو عام وكلي . إن موقفا فلسفيا كهذا له ” عمله الخاص به ” ينتهي بإدانة واتهام كل علم إنساني وبالخصوص علم التاريخ ، أو على الأقل تصورا معينا لتاريخ حكائي بشكل جوهري ، لا يمكنه أن يدعي سوى رص الوقائع الخاصة والجزئية.

2)      توجه ثان إزاء علوم الإنسان ، هو توجه الأمبريقيين : فهؤلاء لا يدينون علوم الإنسان، وإنما يحاولون دائما تشجيعها ، لكنهم يطرحون في مواجهتها مطالب منهجية تؤدي إلى اتهامها على الدوام بالدونية مقارنة بعلوم الطبيعة، وبالفعل ، فأمبريقية كارناب على الخصوص ، أو أمبريقية لازارسفيلد ، تتطلب من كل علم أن يستنسخ مناهجه عن مناهج الفيزياء ( عزل المتغيرات وإنشاء علاقات وظيفية بين هذه المتغيرات . . إلخ ) ، كما تقرر من جهة أخرى أن العلوم الإنسانية مطالبة بتبني مسعى إرجاعي ( على سبيل المثال يتم إرجاع الوقائع الاجتماعية في السوسيولوجيا الأمبريقية إلى وقائع نفسية ترجع بدورها إلى سلوكات) ، وأخيرا ، وباستثناء علم النفس ، ترتب النزعة الأمبريقية العلوم الإنسانية في أسفل السلم ، ما دامت لا تستطيع أبدا امتلاك الكرامة القصوى التي تتمتع بها العلوم التجريبية ( فنحن لا نستطيع إحداث ثورة لدراسة وقياس تأثيراتها الناجمة عنها ).

3)      نقد ثالث للعلوم الإنسانية يريد أن يكون إبستمولوجيا : فبمعارضة العلوم الإنسانية بعلوم الطبيعة ، وافتراض موضوعية مطلقة لدى هاته الأخيرة ، يؤكد هذا النقد أن العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تدعي تحقيق نفس الدرجة من الموضوعية : إذ أن هنالك بالنسبة لنفس الموضوع في العلوم الإنسانية كثرة وتعدد وتنوع في المقاربات، وهكذا فنحن نجد في مجال اللسانيات المقاربة البنائية والمقاربة التوليدية اللتان تتعارضان جذريا ، كما نجد في مجال علم النفس الإبستمولوجيا التكوينية وسيكولوجيا الشكل والنزعة السلوكية . . . إلخ.

4)      وأخيرا نجد نزوعا رافضا بشكل جذري لعلوم الإنسان هو نزوع التيار الألتوسيري ، ويستند هذا الموقف على حقيقة اجتماعية لا تقبل الجدل : فبعض العلوم الإنسانية على الأقل ( لنقل الاقتصاد وعلم الاجتماع على الخصوص ) ليست إلا أردية نظرية للممارسات الاجتماعية ( إنشاء مؤشرات الأثمنة ومنحنيات من جميع الأصناف مستعملة لغايات الدعاية الرأسمالية ـ إعداد أدوات سبر أو قياس للرأي العام تستخدم لترويز واختبار سوق اقتصادي أو سياسي ، ولتقييم رغبات المستهلك أو المواطن ، واستثمارها للتأثير فيهما لتحقيق المكاسب والأرباح أو للحفاظ على السلطة) . غير أن الأطروحة الألتوسيرية تتأسس على قواعد إبستمولوجية مغلوطة : فهي تقرر أن كل الأبحاث في العلوم الإنسانية باستثناء السيكولوجيا الفرويدية ، وبفعل الخيط الغريب الذي يربط فيما بين ” لاكان ” وألتوسير ، ليست لها في مجتمعنا إلا وظائف إيديولوجية ، وهو ما يؤدي إلى نفي إمكانية وجود أبحاث لها محتوى إيجابي وقيمة معرفية موضوعية ، باستقلال عن تطبيقاتها العملية في نمط الإنتاج الرأسمالي.إن هذا التصور الوظيفي للعلم ، والذي يريد أن يكون مع ذلك ماركسيا ، هو تصور غائي بشكل غريب ؛ فهو يعرف حقلا علميا معينا عن طريق تقنيات التطبيق التي يسمح بإنتاجها: وهكذا كتب ميشال بيشو على سبيل المثال قائلا : ” تجد البيولوجيا ( ميدانها التطبيقي تاريخيا ) في الممارسات الطبية باعتبارها معالجة وتكييفا لقوة العمل ” (حول تاريخ العلوم ـ ماسبيرو 1969 ص 41) و لا تعترف بالاستقلال الذاتي النسبي للعلم عن التقنية في نمط الإنتاج الرأسمالي.

إن النزوعات السلبية الأربعة إزاء علوم الإنسان التي أتينا على استعراضها تقوم كلها على تثمين مفرط لمناهج ونتائج العلوم المسماة بالعلوم ” الدقيقة ” وتحدث ” قطيعة إبستمولوجية ” بين العلم الموضوعي غير القابل للجدال ، والمجسد في علوم الطبيعة وبالأخص الفيزياء من جهة ، والعلوم الإنسانية التي هي علوم ذاتية من جهة أخرى. إلا أنه من اليسير رفض كل هذه الأطروحات الإيديولوجية إذا ما أخذنا في الحسبان فتاوة وجدة العلوم الإنسانية التي ولدت كلها في نهاية القرن التاسع عشر ، ويمكننا أن نقول إن مختلف المقاربات للظواهر الإنسانية تنزع أكثر فأكثر نحو الاستناد على المنهج العلمي. ليس هنالك علم إنساني يدرس ” الإنسان الكلي “، وبدل أن تكون هذه البديهة عرضا من أعراض اللاعلمية ، فهي بالعكس من ذلك مؤشر على تقطيع علمي للظواهر الإنسانية ، فلا يمكن أن يوجد علم يشكل الإنسان موضوعه( إذ لن يكون إذ ذاك إلا ميتافيزيقيا) ، مثلما لا يوجد علم يدرس الطبيعة في كليتها. إن تعدد الأبحاث ليس انعكاسا لموضوعية نجهلها ، وإنما يترجم بالعكس من ذلك تنوع الموضوعات ( هكذا على سبيل المثال تدرس نفسية الإنسان بشكل تنافسي من طرف علم النفس وطب الأمراض النفسية والتحليل النفسي وعلم النفس التكويني الذي يدرس تكون نفسية الطفل ، وعلم نفس الشكل الذي يدرس الإدراك بشكل خاص . . . إلخ). يحدث بطبيعة الحال أن هذه المقاربات تتعارض في بعض المجالات ، حيث يعاد تطبيق موضوعاتها ( مثلا ينسب علم الاجتماع الانتحار لأسباب اجتماعية في حين أن علم التحليل النفسي ينسبها لأسباب نفسية)، غير أن هذا النوع من الصراع فيما بين العلوم ليس خاصا أو وقفا على العلوم الإنسانية ؛ فالفيزياء والميكروفيزياء مثلا تعرضان تفسيرات متباينة ومختلفة لظواهر الطبيعة. وفيما يخص الاعتراضات على المبادئ أو على المناهج ، فغنها فقط أكثر ظهورا وبروزا في العلوم الإنسانية التي لا زال الكثير منها في بداية طريق التكون ، في حين أن بعض علوم الطبيعة تجاوزت وبشكل واسع هذه المرحلة، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة للفيزياء ، ألم تفند الأزمة الواقعة في نهاية القرن الأخير حقيقة بعض النتائج أو مشروعية بعض الإجراءات ؟ .. إن الصراع فيما بين مقاربات العلوم الإنسانية ليس من طبيعة من شأنها أن تفرمل أو توقف الاكتشافات العلمية في هذا المجال : فهناك حدسيون في ميدان علم النفس ( علم نفس الشكل ) أو في اللسانيات ( اللسانيات التوليدية ) تتعارض مقارباتهم مع مقاربات التجريبيين ( علم النفس التكويني ـ النزعة السلوكية ) أو مع مقاربات الأمبريقيين ( اللسانيات البنائية ) ، لكن هنالك أيضا تعارضات مماثلة بين الحدسيين والمنطقيين والشكلانيين في مجال علم الرياضيات، رغم أن هذا العلم ينظر إليه باعتباره أكثر ” دقة ” من العلوم الدقيقة.

غ. باشلار

إذا قبلنا إذن ، كما يوحي بذلك واقع الممارسة العلمية ذاتها ، بأنه ليست هناك ” قطيعة إبستمولوجية ” Coupure تحدث مرة واحدة ونهائية بين ما هو علمي وما هو غير علمي ، وإنما هناك بالعكس من ذلك في العلم ” انقطاعات ”  Ruptures متجددة باستمرار مع المعرفة العامية ، ومن ثمة فهو سيرورة تنهض مما سيكون لا مما هو كائن ، إذا قبلنا ذلك فإننا لا نستطيع أن ننكر على العلوم الإنسانية وجودها ومشروعيتها ، وبشكل أكبر ، إمكانية تشكلها عبر تنازع المبادئ والمناهج ومقارنة النتائج ، أي تنازعا ” جدليا ” حسب تعبير غاستون باشلار.

أضف تعليقك هنا